ترجمها من الألمانية إلى العربية: يوسف عبدي
مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.
كلَّما تذَّكرتُ أخي رشاد تغالبني الدموع بغير إرادة … كان رشاد أَوَّلَ مَنْ عانقني في الظلام حين ودَّعتهم ليلاً وعبرتُ نهر دجلة، وهو مَنْ يعيلُ الأسرةَ لوحده منذ أمدٍ طويل!
أخي رشاد ذلك الشاب الذي كان ينتفضُ قوةً وحيوية، لم يعد كذلك الآن … بل أنه لن يعود إلى سالف عهده أبداً، فالإصابات تملأ جسده والعلل نخرت صحّته وأفقدته عافيته؛ وسبب ذلك يعود إلى السبعينات.
في ذلك الوقت كان الزعيم الكردي مصطفى البارزاني يشكل أحد مقدساتنا القومية، ولا يجوز لأحد الانتقاص من مكانته أو المساس بقدسيّته؛ فالبارزاني لم يكن يناضل لتحرير جزء من كردستان فقط، بل كان يسعى لتحقيق حرية كردستان كلها، ولهذا فإن حبّنا وولاءنا له يفوق كل شيء.
مع قدوم موسم قطاف القطن كانت الأسرة تخرج إلى حقل القطن البعيد على ضفاف الخابور وبين خضرة الأرض الطيبة، وتسكن في كوخٍ صغير محاطٍ بسياج من أشجار الحور الطويلة، كما أن شجرة التوت الكبيرة مازالت تسدل بأغصانها المتدلية على سطح الكوخ بجانب الحقل.
كان حقل موسى الشيشاني يجاور حقلنا، وموسى هذا عضو في حزب البعث الحاكم؛ ولا أدري لماذا كان يحقد علينا أشدَّ الحقد، ويحاول الإساءة إلينا بشتّى الوسائل!
كان لديه كلب سمّاه (بورز)، ولكننا حين نمرُّ أمام كوخه فإنه يتقصَّد أن ينادي كلبه باسم (بارزان) ممِّا ولَّدَ غضباً عظيماً في نفسي.
حين مرَّ أخي رشاد يوماً بجانب كوخه صاح موسى كلبه: بارزان! توقف رشاد وقال له:
ــ أعتقد أنَّ كلبك اسمه بورز وليس بارزان.
فردَّ هذا بكل تعجرف:
ــ إنني اسمّي كلبي ما أشاء! وهجمَ على أخي رشاد الذي قال له :
ــ لن أرفع يدي على رجلٍ في عمر والدي، فإن كنت تريد العراك أرسلْ لي أولادك وأنا أتفاهم معهم .
وحين جاء ولداه أشبعهما رشاد ضرباً وبكل ما يملك من قوة؛ فامتلأ قلب موسى الشيشاني حقداً وقرّرَ الثأر، وتوجّه بعد أيام إلى أحمد في قرية (سري كانيه) الذي كان من جواسيس المنطقة ومقرباً من سلطات الأمن، وبمساعدته استطاع أن يشكوه للسلطات .
لم يذكر في الشكوى أنَّ رشاد قد ضرب ولديه، بل ادّعى أنه قد سخر من الدولة وقام بتوزيع منشورات حزبية في القرية تحرِّضُ الناس ضد الحكومة .
في إحدى الأمسيات كانت أمي تقوم بتحضير العشاء في الكوخ وكان أبي جالساً على لبنة عند عتبة الباب يلفُّ سيجارته من تبغ (خورسى)، ويقوم رشاد بتزييت عجلات العربة … فجأةً توقفت سيارة جيب عسكرية أمام الكوخ بعد أن أثارت زوبعةً من الغبار لتكسر الهدوء المخيم على الحقول، ونزل منها أربعة رجال مسلحين بينهم مسؤول مفرزة الأمن في (سرى كانيه) الذي صرخ :
ــ مَن منكم رشاد؟
عندما عرَّف رشاد عن نفسه اقتربَ منه رجل الأمن وشدَّه من شواربه:
ــ سوف نقتلع شواربك هذه شعرةً شعرة، كيف تتجرّأُ وتسخرُ من الحكومة وتشتم القادة وأنت لا تتعدى سوى أن تكون كلباً .
إن مَن يشدَّ شوارب الرجال فقد أهان كرامتهم، فما كان من رشاد إلا أن أمسك بيد الرجل وشدَّهُ ثمَّ أوقعه أرضاً؛ فانهال كلهم على رأسه بمؤخرة أسلحتهم حتى وقع فاقداً الوعي .
ترجّاهم والدي:
ــ ماذا تريدون من ولدي، إنه لم يرتكب ذنباً …
فردّوا عليه:
ــ إنك لا تعرف شيئاً أيها العجوز، ابنك لا يستحق الحياة فهو يعمل لحساب الأحزاب المحظورة، وإذا كنت تريد أن ترافقه فلا مانع لدينا لأننا نحبُّ هذه التسلية كثيراً .
ثم ربطوا يدي رشاد وعلَّقوه بمؤخرة السيارة وجرُّوه خلفهم بوحشية، فارتفعت صرخات أمي من داخل الكوخ:
ــ يا إلهي! لقد أخذوا ابني، أخذوه وحيداً .
وقف أبي على مفارق الطرق رافعاً يديه بالدعاء لا يدري ما يفعله، فأولئك المجرمون لم يحترموا كبر سنه.
خيَّم الليل وهبّتْ نسمات باردة من الخابور … كان عواء الذئاب يتردّدُ في كلّ الجهات … لم يكن رشاد يرتدي سترة تقيه من البرد، وقد ربطوه بتلك السيارة ولا نعرف إلى أين .
عند استجوابه اتهموه بأنه قام بكتابة وتوزيع منشورات سياسية ضد الدولة، فأنكر رشاد ذلك وأكّد لهم أنه لا يعرف القراءة والكتابة فقالوا له:
ــ سوف نعلمك كيف تقول الحقيقة !
وتم تعذيبه بقسوة، ثم ربطوه مرة أخرى بتلك السيارة وجرّوه خلفهم على ظهره مسافة سبعة كيلومترات من قرية (عريشا) حتى (سري كانيه)، وتركوه مرمياً على قارعة الطريق حتى وجده أحد الفلاحين العرب؛ فنقله بجرّاره إلى المستشفى .
كانت الجروح التي تملأ ظهره بليغة جداً فاللحم انسلخ عن العظم، ولكنه لم يستطع البقاء في المشفى أكثر من يوم واحد لأنه لا يملك هويّة شخصية، ومَن لا يملك الهويّة الشخصية (كما هو حال العديد من كرد المنطقة) فلا يحق له النوم في المشفى مهما كانت حالته خطرة .
بقي أخي رشاد يتلقى العلاج لمدة ثلاثة أشهر، وكانت العائلة توفِّر ما أمكن من طعامها وثيابها لتوفير الأودية اللازمة لعلاجه وإنقاذه من الموت .
كان كل ذنب رشاد أنه أحب بطلاً كردياً أرادوا مساواته مع كلب موسى!