أدب و فنالقسم العام

يوميات طفل في رأس العين

آرام كره بيت

مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م.

عين حمزة

مدينة رأس العين قصيدةٌ متجذّرة في لعبة الريح.

كان والدي مسكوناً بحبّ الطبيعة والأرض، يحملنا في الصباحات الصيفية الباكرة المُنعشة إلى هناك، إلى مصبّ الحياة، إلى الينابيع.

يوقظنا من النوم، عندما تكون أجنحة السماء غافية. نضع كلّ مستلزمات الرحلة الصباحية في السيارة، طاولة، جبس، بطيخ بلدي، جبن بلدي، خبزُ تنور تحضّره والدتي قبل مساء، خبز من الفرن، زيتون، مربّى مشمش، مربّى ورد، تين أو قرع، كرز.

قبل الساعة الخامسة صباحًا ننطلق، عندما يكون الناس نياماً أثناء العطلة، أي يوم الجمعة.

يتحاشى والدي الذهاب عبر وسط المدينة، الشارع الوحيد في رأس العين، الذي يمر عليه جميع الناس ويقسمها إلى قسمين. ويوزّع السكان على بقية الأحياء، فنمر، بعيداً عن عيون الناس حتى لا يستفز المخبرين أو البعثيين الذين كانوا عيون النظام على الشاردة والواردة، وحتى لا يقولوا إن هناك سيارة للدولة فيها أطفال وامرأة، ويستخدمها الموظف للحاجات الخاصة والشخصية. بالرغم من أن والدي كان يطلب إذناً من رئيس المصلحة قبل الذهاب بهذا المشوار بيومٍ واحد، لمسافة تقدّر بأقل من ثلاثة كيلومترات.

ننطلق من البيت مسافة مائتي متر باتجاه الغرب، ثم ندور نحو اليسار، نمر عبر الثكنة الفرنسية القديمة المتموضعة فوق تلة أو مرتفع عن الأرض مسافة بضع مئات من الأمتار ندخل فجأة إلى أن نصل إلى الملعب البلدي المكشوف، فنعبر المطحنة إلى أن نصل إلى الينابيع.

كانت الحياة بسيطة جداً في ذلك الزمن في الستينيات، معجونة بالشهقة الجميلة، فتمرّ كدعابة أو حلم ملون يناجي طيف السماء. في هذا المكان، ترقص بحار المياه العذبة فوق طبقة التراب النائمة، كفاكهة على غصنٍ أخضر. هذا الماء البلّلوري يمتد كجذر على الأرض وأشجارها، وفوقه تسطع غمائم السحر وشبابيك الشَّمْس وغابة الحياة.

المكان عذبٌ، ساحر، ولا سحرَ أجمل من ينابيع رأس العين في العالم كله.

مع الأسف كنا نملك أجمل بقعة في هذا العالم. زينة من الطبيعة البكر، وهبتها لنا على طبق من صفصاف. وضيّعناها إلى الأبد.

عندما نصل إلى نبع عين رياض، يوقف والدي السيارة في مكان مُظلّل بالأشجار، بعيداً عن العيون.

ننزل، وندخل غابة صغيرة عبر ممرٍ مملوء بالأشجار مسافة بضعة أمتار. على امتداد البصر، ماء وينابيع وشجر ونسيم عليل. أخذنا أقرب مكان لنا؛ عين حمزة.  نبع دائري، قطره أقل من أربعة أمتار، ينساب منه الماء كشعر صبية جميلة في مقتبل العمر. على الضفة نفرش الطاولة، أو في وسط الماء الرقراق، نجلس على الكراسي أو نفرش بطانية ونجلس على الأرض المعشبة. تقشّر أختي وأمي البطيخ والخيار، وتحضران الفطور. أنزل إلى الماء برفقة والدي، نسبح، العمق لا يتجاوز المتر. عندما أقف أحس بالرمال تدغدع رجلي وأصابعي. ترقص الرمال الناعمة المدورة تحت تأثير أندفاع الماء من شهوة الأرض، كطفل ولد للتو.  ينسحب الماء من جسد الأرض، ويسير فوقها كغطاء من ورد. ويستمر إلى ما نهاية، كنبض وعطاء.

كنت أرى قدمي مكسورة بفعل الماء، والأسماك تلعب بأصابعي، وأرى الماء الصافي العذب يلعب بمسامات الصباح الباكر، يضخ الحياة في شرايين الحياة، ويحتمي في هذا العري الكوني المملوء بالضوء ولعبة الحياة.

لم أكتف بهذا النبع، أقول لوالدي:

ـ أريد أن أذهب إلى نبع رياض، إنها على بعد ستة أمتار. هناك النبع أوسع وأعمق، مفتوح على نبع آخر، أريد أن أسبح في فضاء أكبر.

ينهرني بكلام قاسٍ:

ـ أنت طفلٌ عجول تحب التنقل من مكان لآخر، لا تستطيع البقاء في مكان واحد. ما الفرق بين هذا النبع وذاك؟ نريدك أن تبقى معنا، مع أمك وأخيك وأخواتك.  لماذا تحبُّ أن تتميز عنا؟

ـ لقد سبحتُ سابقاً هناك مرات كثيرة. لا أحب هذا النبع، فهو صغير ولا يفي بإمكاناتي كسبّاح ماهر.

ـ هذا هراء، النبع هو النبع، وإذا أخذتك إلى نبع عين حصان ستطلب عين الزرقاء، وإذا أخذت إلى عين عروس، ستطلب عين الكبريت، عين بانوس، عين قطينة. المشكلة فيك وليس في النبع. لا أسمح لك أن تتركنا وتذهب وحدك.

ألا يكفي أنك تقضي معظم أوقاتك بين كرة القدم والسباحة في الينابيع؟ نفطر هنا، ونتمتع بالصفاء والجمال، حيث العصافير والبلابل والطيور تغرد طوال الوقت؟

أرغمني على القبول، قلت لنفسي:

ـ الحياة هنا صافية نقيّة هادئة.

الحقيقة أن بلادنا كانت جميلة في هذه الفترة، الناس بسطاء، قبل العام 1970، لم تتلوّث بالطائفية أو الانتماءات المذهبية.

ركبنا السيارة ومررنا بجوار بقية الينابيع التي لا تُعدّ ولا تُحصى، ربما مئات أو أقل أو أكثر.  الماء في كل مكان، والماء جارٌ للماء، يغّني له، يغازله، يتزاوجان، وينجبانِ أطفالاً.

وصلنا إلى نبع عين سيروب، كانت العمة سيران، أم سيروب، على علاقة قرابة مع والدي. لم تكن تعرف العربية، بل تتحدث الأَرْمَنية والكردية. استقبلتنا بابتسامة مشرقة، ورحّبت بنا. جلسنا تحت الأشجار، وكانت الشمس قد خرجت من حلمها، ومخبئها وأخذت ترمي بسيول أفراحها علينا.

أخذتنا إلى شجرة عالية قالت لوالدي:

ـ هل لديك المقدرة على هزّ هذه الشجرة؟

وأشارت إلى شجرة المشمش.

قال لها والدي:

ـ بالطبع أستطيع.

في هذه اللحظات اقترب كثير من الأطفال لجني بعض حبّات المشمش أو للصعود إلى أعلى أغصان الأشجار المثمرة.

كانت سيران، امرأة مسنة، تركض وراءهم وتشتمهم بأقدح العبارات، بلغة عربية ركيكة، مضحكة. ويتخلل الشتائم، شتم لنفسها أيضاً، أكثر من شتمها للأطفال، الذين كانوا يهربون منها، ويضحكون عليها.

صعد والدي إلى أعلى الشجرة. وصعدتُ وراءه، بعد أن فرشت والدتي بطانية على الأرض. هزّ والدي الشجرة. وانتقلنا إلى شجرة أخرى. امتلأ المكان بالمشمش، ووضعنا الجني في السيارة بكميات كثيرة.

قال لها والدي:

ـ يجب أن نتوقف. من المؤسف أن لا ننتقل إلى بقية الأشجار، أن نترك هذا المحصول الوفير يتعفن أو يموت على ظله أو على الأرض.

قالت سيران:

ـ أريد أن أتخلّص من المشمش الباقي على الأشجار. الأَطْفال يسببون لي الإزعاج. ارمِ المشمشَ، أرجوك.  أريد أن تتعرّى الأشجار من الثمار حتى لايكسّروا الأغصان، هؤلاء الأَطْفال أشرار، ولا أريدهم أن يدخلوا إلى حقلي في غيابي أو إلى نبع الماء الخاص بي.

عين الزرقاء

في الصيف، كنت أذهب مرات كثيرة إلى عين الزرقا، برفقة أصدقائي، تمو ومعمو وقيس وأولاد عبد الرحمن باشا.  كان النبع مزنّراً في الأعلى، مقصفه تحته.  نمشي خطوات قصيرة لا تتعدى بضعة أمتار، ننزل الدرج، ونشاهد العمال، ونشم رائحة العَرَق، ماركة “بطة بيضاء”، يتناثر في الهواء ويرقص.

عندما كنت أرى انعكاس أشعة الشَّمْس على الماء، يأخذني الحنين إلى الحنين، إلى السماء، إلى تجليّات القدر، ومكامن الجمال.

جمال يأخذ بيدك، ويرحل بك إلى البعيد.  جمال بلّوري اللون والسحر، يرفعك من جناحيك، ويشعشع، ويغرز النور والضوء في ذاكرتك، ويضعك في إبداعات الوجود.  انظر إلى انعكاس السماء على الزمن، كيف يتكئ انقسام الجنون على بعضه، وتنفتح الألوان على سحرها. ويرقص قلبي على قلبي ويسرحُ بي، يحوّلني إلى طائر، عاشق للأرض، للماء والطبيعة والحياة. النبع شيء من ظلال الوجود والجنون والجلال. إنه مجد الوجود، حجّه، حلم يتداخل في الحلم. طفح من باطن الأرض وجلدها.  وينبثق من ذاكرتها، ويضعها في مصاف الآلهة والنجوم والحقيقة.

لم يسمحوا لنا أن نسبح، نتأمل، نحن الأطفال الصغار، العشاق، رسل الفرح، المولودين من رحم الجوهر.  الراغبين في دخول جوف الماء والتعمّد برسله ورسائله.  نقف على حافة الاستغراب، كاستغراب الوجود للوجود، نرى أسماك الشبوط الطويل والبوري، تتمايل مع تمايل لون الشمس وانقسامها، وانعكاسها على بعضها.

نزلنا إلى تحت، المكان الذي ينثر الماء من النبع، وينهمر في الماء.  خرج الماء الصافي من جوف وحطّ رحاله في المجرى والفروع التي تذهب به إلى الخابور. سبحنا هناك، في المكان الضيق، تحت الشلال، ضحكنا وغنينا. في هذا المكان كانت تُرمى بقايا قناني العرق المكسور، وأغطية المياه الغازية وبعض النفايات.

كنا نسبح وننتقل من مكان إلى آخر.  أحسست بوخزة وبألمِ اصطدام رجلي اليسرى بشيء حاد.  رفعتُ قدمِي، فرأيت دماً قانئاً يلّون الماء. خرجت من الحوض الضيّق، لأسدّ الجرح العميق في منتصف راحة قدمي. خرج الأطفال معي، ومضوا يساعدوني، محاولين إيقاف النزيف. جاء بعض العمال القريبين منّا، وتضامنوا معي، وجلبوا قطعة شاش كبيرة، فربطوا قدمي، بيد أن النزف لم يتوقف، بل بقي الجرح مفتوحاً وكأنّ لعنة ما حطّت علي.

كنت ألعب كرة القدم بقدمي اليسرى، المكان الذي أضرب فيه الكرة.  وتحوّل إلى وجع ونزف.

عرجت مع أصدقائي إلى البيت مسافة كيلو مترين.  وبقي الدم نازفاً، والجرح مفتوحاً.

بكت والدتي مطولاً، وعنفتني كثيراً على لجَاجتي، وحيويّتي.

في اليوم الثاني أخذني والدي إلى الطبيب. ضمّدها جيداً، وأعطاني مضاداً حيوياً، إبر بنسلين، كلّف الأمر ثلاثة عشرة ليرة ونصف الليرة، كلها على بعضها مع معاينة الطبيب.

بلدية مدينة رأس العين

في ذلك العام/ 1969/ بدأت بلدية رأس العين بحفر الشوارع لتمديد مجاري المياه المالحة تحت الأرض. جلبوا حفارة /باكر/ وحيدة. ومضوا يمدّون القساطل وملحقاتها من الاسبستوس.

أكثر ما أثار اهتمامي هو وجود أكوام من العظام والجماجم البشرية تحت الأرض، على مسافة لا تتعدّى العشرين أوالثلاثين سنتمتراً من سطح الأرض.

كنّا ننام في غرفة تطلّ على الشارع على مسافة متر ونصف المتر، بالقرب من تموضع العظام البشرية المكوّمة. رائحة التربة كانت رائحة عظام، ورائحة الشارع أيضاً. جماجم بالآلاف، سواعد، عظام الفخذ، أصابع اليد، أسنان، مكوّمة فوق بعضها البعض، وكأنّ هذه العظام وصلت إلينا نتيجة معركة كبيرة جَرَتْ على هذه الأرض أو مجزرة حدثت في زمن ما.

أستطيع القول إِن مدينة رأس العين متموضعة أو نائمة على تلالٍ من العظام ليس أولها ضاحية الخرابات القائمة في شرقي المدينة على مقربة من سكة القطار، أو في المكان الذي نسكنه على مسافة لا تتجاوز بضع مئات من الأمتار من الحدود التركية.

كنتُ، مع بقية الأَطْفال من عمري نسير مع الحفارة /الباكر/ نتحرك مع دلوه أينما ذهب. العظام المفتتة ترمى على الجانبين من الشارع.

كنت أقول لنفسي:

ـ عظام من هذه؟ من هم هؤلاء الضحايا؟ لماذا لم يذكر كتب التاريخ شيئًا عنهم؟ أم أن ذاكرة بلادنا ميّتة؟

مرات كثيرة كنت أقف مع تمو ومعمو الباشات فوق العظام، ونتحدث عن الأموات. كنت أسْتغربُ هذا الكم الهائل من المخزون الثقافي في عقولهم عن الموت وعذاب القبر ومجيء عزرائيل وجبرائيل وبيدهما العصا، ويُفرزان المؤمنين عن الكفار.

كنت أَتَساءَل:

لماذا هذه الثقافة المخيفة محشوة في عقول أطفال مثلي؟ ولمصلحة مَن يتم استثمار هذا الخوف الربّاني؟

وعندما كبرتُ، علمت أن هذه الثقافة توارثها الناس عبر أئمة دجالين ليس لهم هم إلا تخويف الناس ليبقوا خاضعين، صاغرين لإرادة رجال السياسة ورجال الدين المنافقين.

سألت أبي مرّةً عن عذاب القبر، فقال:

ـ هذا كلام فارغ، لم يأت إنسان من بين الأموات، أو حدّثنا عن أوجاعه.

وأردف:

ـ مَنْ مَات فات. لا تعطِ أذنك لهذه الخرافة الفارغة.

كان الملّاكون الكبار، نساءهم وأبناءهم، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثًا قد تركوا البلاد وهربوا بأجسادهم وكأنهم فصّ ملح وذاب.

تركوا كل شيء وراءهم، بيوتهم، أملاكهم، الخطط والبرامج الطويلة لاستثمار البلاد وتنشيط دورتها الاقتصادية، بعد أن صادرتها دولة البعث.

وكأنّ السلطة الجديدة كانت في حالة حرب معهم. وهكذا، دفعة واحدة وبجرّة قلم حدثَ تغيير جذريّ في المُلكية وتوزيعها وبعثرتها وتشظّيها إلى قطع صغيرة لتسهيل هضم القوى التي حازت على الأرض كانتفاع أو حيازة دون سند ملكية أو ضمان بعدم أخذها مرة ثانية.

لم يكن لدى القوى القديمة القدرة على الرفض أو الاعتراض لهشاشة قواها أو تمثيلها السياسي.

وهكذا تبرز الأيام موحشة، متعبة.  لقد زرع العسكر الخوف والرعب في طول البلاد وعرضها. لا أعرف مشاعر الذين تخلّوا عن أراضيهم تحت سطوة القوة، عن حياتهم ونبض العيش في مكان وجودهم.  لكن ما أعرفه أنهم خسروا بضربة واحدة كل شيء وإلى الأبد. ومن دون تعويض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى