القضية الكردية في سوريا جزءٌ من القضية الديمقراطية العامة، ولا يمكن تصوّر حلول مناسبة للمسألة الديمقراطية دون حلٍّ عادلٍ للقضية الكردية، وأيُّ تفكير بإيجاد توافق أو حلّ سلميّ في سوريا دون النظر إليها نظرة جديّة تؤكّد على أنّها من ضمن القضايا الأساسية في الصراع الدائر يبقى حلاً ناقصاً وجزئياً، ويجعل التوتر موجوداً دائماً والاستقرار مهدّداً بأي لحظة. إذاً لا يمكن إنكار وجود مسألة كردية في سوريا؛ لأنّ هذه المسألة مرتبطة بقضية شعبٍ يعيش على أرضٍ تاريخية ويتميّز بخصوصيّة معينة، لكنّه محرومٌ من أبسط الحقوق المشروعة، ولا يزال يعاني من الغبن الذي لحِقَ بحقّه على مرّ الزمن، علاوةً على المحاولات الحثيثة من قبل جهاتٍ كثيرةٍ للتعتيم على ثقافة وتاريخ هذا الشعب، وطمس وتحريف كل ما يتعلّق بحضارته القديمة، وذلك ليس بقصد إنكار قضيته فقط، بل إلى درجة إنكار وجوده كإثنيةٍ قوميةٍ ومجموعة بشرية.
لكنّ الأمور لا تدوم في الغالب وفق هوى جهةٍ محدّدة مخالفة لرغبة جهةٍ أخرى، ثمّ إنّ ترك المسائل دون البحث عن الحلول المناسبة لها أو الحيلولة دون معالجتها بشكل صحيح سوف يؤدّي إلى شدّة التعقيد فيها، كما سوف يؤدّي إلى ازدياد الانقسام بين أطياف المجتمع واتساع دائرة الصراع، وبالتالي سيتمّ استغلال تلك المسائل من قبل بعض الطامعين في التدخل ثمّ تعقيدها على نحوٍ أكبر ممّا كانت في السابق.
كما أنّ الشمس لا يمكن حجبها بالغربال، كذلك القضية الكردية أيضاً لا يمكن غضّ الطَّرْفِ عنها أو تناسيها وتجاهلها من قبل الأطراف المعنية، كونها من القضايا المهمّة في البلاد، والشعب الكردي في سوريا جزء مهمّ من الشعب السوري، يشارك المكوّنات الأخرى في الأفراح والأحزان، ويشترك معها بالآلام والآمال، مع الشعور من قبله بأنّ أيّ خطرٍ على سوريا هو خطرٌ عليه، وأنّ أيّ خطرٍ عليه هو خطرٌ على سوريا برمّتها. على هذا الأساس يعي الشعب الكردي المصلحة الوطنية السورية مثلما يعي مصلحته وخصوصيّته، لذلك نجده يُثبت حضوره الدائم في مجمل تفاصيل الحياة السورية، ولا يتقاعس عن القيام بدوره الإيجابي، أو بأداء الواجبات الملقاة على عاتقه. ومن هذا المنطلق يمكن التأكيد على ضرورة الوحدة الوطنية بين كافة المكوّنات الموجودة في سوريا، وإذا كانت هذه الوحدة من العوامل المهمّة ومن الضرورات المطلوبة للحفاظ على الشخصية الوطنية السورية في الأوقات الماضية، فإنّها باتت من الضرورات الملحّة جدّاً في الوقت الحالي، بخاصّةٍ في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها الشعب السوري بكلّ أطيافه من خلال المعاناة من ويلات الحرب المفروضة عليه وحالة الانقسام والتشرذم ومحاولات التهجير القسريّ والتغيير الديموغرافي، كذلك محاولات ربط الدولة السورية بمعاهدات واتّفاقيّات مفروضة عليها بسبب ضعف الدولة والتدخّلات الأجنبية المختلفة والتي وصلت إلى أوجها في هذه المرحلة من خلال الوجود العسكري المباشر من قبل دول عدّة تحت ذرائع وحجج كثيرة، غايتها تبرير وجودها العسكري واقتطاع مناطق النفوذ ورعاية مصالحها الذاتية وفق التوافقات والتفاهمات بين بعضها، سواء السرّية أو العلنية، دون النظر إلى مصلحة الشعب السوري أو مراعاة الحالة المأساوية التي يمرّ بها؛ بمعنى أنّ الشعب السوري بجميع أطيافه ومكوّناته هو الخاسر الأول والأكبر في أيّ اتفاق أو تفاهم يحصل بين هذه الدول المتدخّلة في سوريا، لذلك وأمام هذه الحالة لا يمكن الحديث عن الوحدة الوطنية إلّا من خلال تضافر الجهود الحثيثة والعمل الجدّيّ والدؤوب على وحدة الصفوف والبدء بالحوار المتبادل بين الأطراف الوطنية السورية على اختلافها وتنوّعها، والعمل على التخلّي عن التكتّلات السلبية والارتباطات الخارجية، مع ضرورة القبول بالآخر المختلف انطلاقاً من أنّ بنية المجتمع السوري تقوم أساساً على التنوّع والاختلاف، وعلى هذا المبدأ يمكن الشروع في بناء سوريا المستقبل دولة المواطنة والقانون.
إنّ تحقيق هذا الهدف المنشود ليس سهلاً ولا مسؤولية فردية أو مسؤولية طرفٍ واحدٍ، إنّما تحقيقه مسؤولية جماعية تقع على عاتق الأطراف المختلفة جميعها، وتتطلّب تضحيات وتنازلات فعليّة حقيقية دون وضع شروط مسبقة للحوار والتفاهم؛ لأنّ وضع الشروط المسبقة يعني وضع العراقيل والحواجز أمام أيّ لقاء بين الأطراف وبالتالي عرقلة الحوار وزيادة الشرخ والانقسام، ممّا يؤدّي إلى الابتعاد عن الحلّ السلمي وإطالة أمد الحرب والصراع بين الأطراف المتنازعة وازدياد التدخّل الأجنبي في الشأن السوري.
أمّا بخصوص الطرف الكردي وقضيته فإنّ المسؤولية المطلوبة منه مسؤولية مزدوجة، وهو مطالبٌ بأن يبدي استعداده للحوار والتفاهم مع الأطراف الأخرى والعمل بشكل جدّي في هذا المجال، مثله مثل جميع الأطراف السورية الأخرى، في الوقت ذاته مطالبٌ أيضاً بتوحيد صفوفه وتشكيل إطارٍ واحدٍ يضمّه من خلال الحوار والتفاهم مع بعضه البعض على قاعدة القبول بالاختلاف والتنوّع، والعمل معاً للخروج بمرجعية واحدة تقدّم مطالبَ محدّدة تتّفق عليها بين بعضها وتأخذ بعين النظر الخصوصية الكردية من جهة، ومن جهة أخرى الوضع السوري العام والمصير المشترك مع سائر المكوّنات، مع مراعاة أن تكون المصلحة الوطنية السورية حاضنة وراعية للمصلحة الوطنية الكردية في الحفاظ على خصوصية الشعب الكردي وحقوقه المشروعة في سوريا، اعتماداً على قاعدة التوافق بين مصلحة المجموع ومصلحة كلّ جزءٍ ضمن هذا المجموع.
————–
* جريدة “الوحـدة” – العدد /346/ – 1 شباط 2025م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).
