القسم العاممختارات

جدليَّةُ العلاقة بينَ كُردِ عفرينَ وشجرةِ الزيتونِ المُباركةِ

مروان بركات

كاتب وباحث من عفرين- مجلة الحوار- العدد /82/- السنة 30 – 2023م

العلاقة بين كُرد عفرين وشجرة الزيتون المباركة ليستْ جديدةً ، أو تعودُ لعقودٍ من الزمن القريب ، بل إنَّها علاقةٌ تاريخيَّةٌ قِدَمَ وجود الكُرد في أحضان تلكَ الجغرافيا الكُردستانيَّة التي شهدتِ العديدَ من الحضارات الإنسانيَّة عبرَ العصور، بلْ وأكثر من ذلكَ، فشجرةُ الزيتون بالنسبة لهم، ترمزُ إلى تجذُّر وجود وجودِهم على هذه الأرض المُباركة التي هي امتدادٌ جُغرافيٌّ وتاريخيٌّ لسلسلة جبل جودي التي ترمزُ إلى البقاء والخلود، وذلكَ في غصن الزيتون الذي حملتْهُ الحمامةُ بمنقارها في قصَّة الطوفان، ومنذُ ذلكَ الزمن وحتى يومنا هذا، يُعتبرُ غصنُ الزيتون رمزَ المحبَّة والسلام والخير والبركة والعطاء والخلود، ولا مبالغة في القول: إنَّ الإنسان الكُردي العفريني وحدَهُ يدركُ قُدسيَّة ومكانة شجرة الزيتون ورمزيَّتها في تراثهِ الحضاري والإنساني وحتى العقائدي، ولا يستطيع أحدٌ أنْ يُنازعه في ذلكَ، وحولَ هذه العلاقة الحميميَّة والمتينة الضاربة بجذورِها في عُمق التاريخ عبرَ أجيالٍ مُتعاقبةٍ، وهناكَ الكثيرُ من الأساطير والروايات والقصص والحكايات الشعبية التي يسردُها كبارُ السنِّ للأجيال.

الإنسانُ الكُرديُّ العفرينيُّ وعُشقُهُ لأشجار الزيتون:

نعم، هنالكَ علاقةُ عشقٍ بينَ الإنسان الكُردي العفريني وشجرة الزيتون المُباركة، وهذا العشقُ الأبديُّ الذي تأصَّلَ في روحهِ من خلال علاقته القديمة الجديَّة بشجرة الزيتون يُعتبرُ مقدَّساً له، ولذلكَ فلا أحدَ يستطيعُ انتزاعه منه بشكلٍ من الأشكال، ومن ناحيةٍ أخرى فقد باتَ هذا العشقُ بمثابة هُويَّةٍ له، تميِّزهُ عن غيره من الكُرد في بقية أجزاء كُردستان، فأينما حلَّ الإنسانُ الكُرديُّ العفرينيُّ، فإنَّهُ يحملُ معه هذه الهُويَّةَ؛ لأنَّهُ لا يستطيعُ العيشَ من دونها، إذْ يقومُ بغرس وإنْ غرسةً واحدةً من شجرة الزيتون أينَما حلَّ، لكي يشيرَ بها إلى هويَّته العفرينيَّة، لذا يمكنُ القولُ: إنَّ الإنسانَ الكرديَّ العفرينيَّ وشجرة الزيتون المباركة توأمان في سجلِّ الحياة و الوجود، فلا تستغربْ أبداً إنْ رأيتَ الفلاح العفرينيَّ يتحدَّثُ إلى شجرة الزيتون أو يُقبِّلُ جذعها أو يُقدِّسُها، ولا غرابة إطلاقاً إنْ قالَ لكَ الفلاحُ العفرينيُّ: لا فرقَ لديَّ بينَ أولادي وشجرة الزيتون؛ لأنَّهُ يعتني بها كما يعتني بأولاده، ولذلكَ لا عجبَ في تضحيتهِ في سبيل هذا العشق المتأصِّل في دمه وروحه حتى الموت، فنتيجة هذا العشق الأبدي والمُقدَّس جعلَ العفرينيُّونَ منطقتهم عفرينَ – جبل الكُرد – بجبالها ووديانها وسفوحها ومنحدراتها غابات خضراء من أشجار الزيتون وبأنواعها المختلفة، فقد جعلوها جنةَ الأرض التي لا مثيلَ لها.

الإنسانُ الكُرديُّ العفرينيُّ والأمثالُ الشعبيَّةُ عن شجرة الزيتون:

ماذا يقولُ العفرينيُّ عن شجرة الزيتون المُباركة وقيمتها ومكانتها وقُدسيَّتِها من خلال الأمثال الشعبية؟ هناكَ الكثيرُ من الأمثال الشعبيَّة التي قالَها ويقولها كُردُ عفرين عن شجرة الزيتون، ومنها: «رَبِّها كما تُربِّي أولادَكَ»، «اِحمِها كما تحمي نفسكَ»، «لا فرقَ بين قتل إنسانٍ وقطع شجرة زيتونٍ»، «تعاملْ معها بحِنيَّةٍ»، «عندَ جني الثمار لا تُؤلِمْها»، «اليدُ التي تقطع شجرة الزيتون تُصابُ بالشلل»، «إيَّاكَ والتبوُّلَ على جذع شجرة الزيتون، وإلا فستُصاب بالعُقم»، «لا بركة في أرضٍ ليسَتْ فيه شجرة زيتون»، «شجرة زيتون واحدة تُساوي قطيعاً من الغنم»، «تحدَّثْ مع شجرة الزيتون فهي تفهمُكَ»، «اِعتنِ بشجرة الزيتون، فهي ستعتني بكَ أيضاً»، «ثوابُ الصلاة تحتَ شجرة الزيتون مُضاعفٌ»، «إذا رأيتَ قريةً وإنْ كانتْ في الصحراء وفيها شجرةُ زيتون واحدةٌ، فاعلمْ أنَّ كُرديّاً من عفرين يسكنُها»، «مَنْ يَبِعْ مزرعةً من شجر الزيتون ولا يشتري بثمنها أرضاً ليزرعَها، خصَّصَ اللهُ له مكاناً في أعماق الجحيم»، «أسندْ ظهركَ إلى جذع شجرة الزيتون فهي لا تخونُكَ»، «لا تترك الدوابَّ بينَ أشجار الزيتون، وإلَّا فسيُغضِبُكَ إلهُ البركة»، «كلُّ شجرة زيتون بمثابة مزارٍ مُقدَّسٍ»، «لا ترمِ الأوساخَ تحتَ شجرة الزيتون، كي لا تهربَ منها البركةُ».

شجرةُ الزيتون في الحكايات الشعبيَّة العفرينيَّة:    

الإنسانُ الكُرديُّ العفرينيُّ الذي اعتبرَ شجرةَ الزيتون رمزَ البقاء والوجود ونتيجة عشقهِ لها، روى عنها العديدَ من القصص الشعبية الهادفة إلى حمايتها من كلِّ أذى يأتيها جرَّاءَ فعل الإنسان، ومنها «قصة قاطع شجرةٍ مُعمِّرةٍ»، حيثُ تقولُ الحكاية: كانَ على قمَّة جبل هاوار الذي يقعُ شمالَ مدينة عفرين شجرةُ زيتون كبيرةٌ و مُعمِّرةٌ، ولا أحدَ يعرفُ عمرها، وكانَ جذعُها يتوسَّطُ صخرتين، ولونُ ثمارها يميلُ إلى الحُمرة عند الاكتمال، وكانَ أهالي القُرى القريبة من جبل هاوار ينظرون إليها على أنَّها شجرةٌ مقدَّسةٌ، لا يجوزُ قطفُ ثمارها، أو أخذُ أغصانها اليابسة بُغيةَ التدفئة، حتى أنَّ الرعاة كانوا لا يتركون الماعز تقتربُ منها حفاظاً على سلامتها من الأذى، ففي فترة الحُكم العثماني للمنطقة، كانوا يحطبون الأشجارَ ويصنعون منها الفحمَ لاستعمالهِ كوقودٍ للقطارات، وتُضيفُ الحكاية أنَّ مجموعةً من الحطَّابين التابعين للدولة العثمانية، كانوا يقطعونَ الأشجار في جبل هاوار، فوقعتْ أعينُهم على تلكَ الشجرة المُعمِّرة، فأرادوا قطعَها، وعندَما وضعوا المنشارَ على جذعها الثخين تمهيداً لقطعها، سالَ منه سائلٌ دمويٌّ يشبهُ دمَ الإنسان، فلم يُبالِ الحطَّابون بالأمر، واستمرُّوا في قطعها، وبعدَ أن أكملوا قطعَ جذعها وقعتِ الشجرةُ المُعمِّرةُ على أحدهم فقتلتْهُ على الفور، وأمَّا الباقون فقد شُلَّتْ أياديهم، عندئذٍ أدركوا أنَّها شجرةٌ مقدَّسةٌ، ولا يجوزُ قطعُها أو إلحاقُ الأذى بها،  ولكنْ بعدَ فوات الأوان. وتذكرُ الحكايةُ أيضاً أنَّ تلكَ الشجرة بعد قطعها، بقيتْ في مكانها أكثرَ من ثلاث سنواتٍ دونَ أن تذبلَ أوراقُها، وأنَّ تاريخ تلكَ الشجرة يعودُ إلى تاريخ بناء القلعة الصغيرة الموجودة على قمَّة جبل هاوار.

 

الكُرديُّ العفرينيُّ يعتبرُ شجرةَ الزيتون مصدرَ الرزق والنور والشفاء من الأمراض:

يمتدُّ تاريخُ شجرة الزيتون في منطقة عفرين الكردستانيَّةِ إلى لحظة الوجود الكُرديّ فيها منذُ آلاف السنيين، حينَها دجنَها الحوريُّون والميديُّون وغيرُهم من أجداد الكُرد القدماء، وانتشارُ معاصرِ الزيت الحجريَّة في قُرى جبل الكُرد، وخاصَّةً في منطقة جبل ليلون دليلٌ على ذلكَ، فقد كانوا يستخدمونَ زيتَ الزيتون للطعام والتداوي للكثير من الأمراض، وكانوا يستخدمونَهُ أيضاً في إنارة المنازل والقُصور والقِلاع و ساحات المدن والبلدات ليلاً، وفي إنارة مراكز الاحتفالات والأماكن التي تُقام فيها الطقوسُ العقائديَّةُ ليلاً.

وحتى النصف الأخير من القرن العشرين، كانَ الأهالي يضعونَ كميَّةً من زيت الزيتون في إناءٍ صغيرٍ، ثُمَّ يضعون فيه قطعةَ قماشٍ على شكل فتيلٍ، ويشعلونَهُ في المزارات ليلاً؛ لإنارتها وطرد الظلام منها، وكانَ ذلكَ في ليلة كلِّ أربعاءٍ أو ليلة الجُمعة من كلِّ أسبوعٍ، ولا يزالُ هذا الطقسُ موجوداً إلى يومنا هذا.

وبعدَ مرور أربعين يوماً من ولادة كلِّ طفلٍ أو طفلةٍ، تقومُ الأمُّ بدهن كامل جسمه/ها بزيت الزيتون يومياً، أو كلَّ يومين طِيلةَ أسبوعَين، وذلكَ اعتقاداً منها أنهُ يحمي الوليدَ من الأمراض الجلديَّة وغيرها، وعندَما يدهنون جسمَ الطفل، تقولُ الأمُّ في صمتها، وأحياناً بشكلٍ مسموعٍ:

“Bi bereketa vê zêta ji dara bereketê, ev qiçik nexweşiya nebîne“.

أيْ: «ببركة هذا الزيت من الشجرة المُباركة ألَّا يُصابَ هذا الوليدُ بالأمراض، وكانوا يدهنون رأسَ الوليد بزيت الزيتون كلَّ شهرٍ مرَّةً طِيلةَ ستة أشهر تقريباً، وذلكَ من أجل تنظيفه من القشرة وتقوية الشعر، وكانوا يُضيفونَ قليلاً من زيت الزيتون، أيْ بمقدار ملعقة طعام على عجينة الخبز، اعتقاداً منهم أنهُ يزيدُ البركة.

وفي الختام نقولُ: مهما حاولَ الظلاميُّونَ بأفعالهم العدائيَّة والشنيعة وجرائمهم التي يندى لها جبينُ الإنسانيَّة انتزاعَ قُدسية شجرة الزيتون من ثقافة وهُويَّة الإنسان الكُرديِّ العفرينيِّ، أو قتلَ عشقهِ لشجرة الزيتون المُباركة، فلا يستطيعون ذلكَ مهما طالَ بهم الزمنُ، فمُباركٌ للعفرينيين هذا العشقُ الأبديُّ المُقدَّسُ، والخِزيُ والعارُ لكلِّ الغُزاة وأسراب الجراد البشري، أصحابِ الثقافةِ المُعاديةِ لجمال الطبيعة وشجرة الزيتون المُباركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى