* كاتب وطبيب بيطري
قراءة في الكتب والمطبوعات والوثائق
مجلة الحوار – العدد /81/ – السنة 30- تموز 2023م
أجهزَ الأمن العسكري في عصر الثاني عشر من شباط من عام 1992م على حزب العمل الشيوعي، حيث ألقى القبض على آخر اثنين من قيادته، عبد العزيز الخيّر المسؤول السياسي وبهجت شعبو مسؤول التنظيم. اقتيدَ الإثنان إلى مركز الفرع ومُنح قائد الدوريّة سيارة خاصة كمكافأة بالإضافة إلى جوائز مالية له ولعناصر الدوريّة التي أطلقت النار بشارة النصر في مقر الفرع وكأنها قد استقدمت مفاتيح القدس، وسط حلقات دبكة استفتاء “الأسد الأب” لولاية رئاسية جديدة في نهاية 1991 وبداية 1992 م. أُعلن عرس الديكتاتور وأصبحت البلاد سجناً كبيراً. أسدل الخوف ظلاله على طول البلاد وعرضها؛ بلادٌ يتكلم فيها الشعب همساً في السياسة والشأن العام، وتمتلك فيها جدران البيوت آذاناً تشي بالهمس للسلطات. بهذا القمع طوي سجل حزب العمل الشيوعي عمليّاً.
كذلك حارب النظام السوري حزب العمل، مع تجنب مجرد ذكر اسمه في إعلامه الرسمي، من خلال أساليب مبتذلة رخيصة من خلال قنوات التشكيك والشائعات المُغرضة لتشويهه وتهميشه. من تلك الإشاعات أن حزب العمل مجموعة سريّة اعتمدت العمل المسلح، وأخرى تقول: أن الحزب تقوده مجموعة من “الضباط العلويين”. سيطرت الصورة المُروّجة تلك على الصورة الحقيقية في ذهن الجماهير. لا مجال للمقارنة بين إعلام وإمكانات حزب يعتمد على تبرّع الرفاق، ذي صبغة طُلابيّة جامعيّة، مع دولة قائمة بمؤسساتها وإعلامها، شائعات جعلها فطاحلة المؤرخين مصدراً لهم وهم يخطّون صفحات من تاريخ تلك المرحلة.
كذلك اتهمه “الإخوان المسلمون” بأنه حزب عميل للصهيونيّة، ملحد كافر، يدعو إلى التحرر الجنسي وإفشاء الرذيلة في المجتمع. واتهمته أيضاً بعض الأحزاب الكردية أنه يزاود عليها، يضعها في موقف محرج أمام جماهيرها.
الأحزاب الشيوعية الرسمية هاجمته بالقول إنه مغامر قاده عملاء لتأكل السجون خيرة الشباب المثقف كما ساهم بتثبيت النظام، دون أن يرد اسم الحزب في أدبياتها.
في خضم تلك الاتهامات آليتُ أن أقرأ “رواية المهزومين” أنفسهم، وقد تكون رواية د. راتب شعبو عن قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا أجملها وأكثرها دقة وشمولية وحيادية. كانت تلك القصة مميزة بدءاً من الإهداء والغاية منها انتهاءً بانهزامها.
لم تكتف نكسة حزيران بسحق الجيوش العربية في ستة أيام فحسب، بل طالت هزيمتها وجدان الشباب العربي، حيث ولّدت شعور اللامبالاة عند الجماهير من كل ما يجري من حولها. تلك النكسة مع ظهور موجة اليسار الجديد في تلك الفترة ساهمتا في بروز فئات شابة في سوريا جلّهم كانوا من الطلاب، انكفأت على القراءة، وجدت في أسئلة وأجوبة ماركس الدواء الناجع لواقعها المهزوم. سهّل حزب البعث طباعة ونشر تلك النوعية من الكتب. شباب بكل ما تحمله الكلمة من نشاط وإبداع وطاقة، كتلة ثورية ضد كل ما هو قديم وسلطة مستبدة ابتداءً من سلطة الأب مروراً بسلطة مدير المدرسة انتهاءً بسلطة رأس هرم النظام. اهتمت بالشأن العام بين أعوام (1967 ـ 1976 م) على شكل حلقات مستقلّة عن بعضها ومنتشرة في معظم المحافظات وفي الجيش على تخوم الجولان المحتل. كان تنظيمهم في الجيش مقامرة ومقتلاً لهم. عُرفت تلك الحلقات باسم “الحلقات الماركسيّة”. لكلّ حلقة رمزها في مكان تجمّعها. كانت تجتمع بشكل عفوي أو دوري. كان الجميع يخضع في تلك الاجتماعات إلى النقد بمن فيهم ماركس وإنجلز. كانت مجلة “البروليتاري” منبراً لآراء الأقلية وللنقد الداخلي. اشترطت حلقة حماة، الأكثر نشاطاً، لقبول العضوية فيها الخضوع لدورة تدريبية لدى إحدى الفصائل الفلسطينية. تعرفّت الحلقات على بعضها في دمشق من خلال جامعتها أو خدمة العلم فيها أو في مكاتب اليسار الفلسطيني. ناشدت أمة عربية اشتراكية واحدة، رأت في الحزب الشيوعي العربي الموحد أداةً لتحقيق هدفها. جانبت الخوض في الوحدة المصرية السورية واعتبرت موقف الحزب الشيوعي السوري خطأً تكتيكياً. اكتنف موقفهم الغموض من تلك الوحدة. كانت القضية الفلسطينية هي البوصلة الموجّهة لهم. يُخيل للقارئ أحياناً أن تلك الحلقات كانت فلسطينيٌّة أكثر ما هي سوريّة رغم مرارة الواقع السوريّ آنذاك. كانت متحررةً من قيدي النظام والسوفييت في موقفها من القضية الفلسطينية. ولم تنشد مهادنة ولاتسوية مع النظام قط الذي اعتبرته امتداداً لسلطة شباط. واعتبرت حل القضية الفلسطينية المفتاح لحل مشاكل الشرق الأوسط، ولحلّها لا بد من ضرب إحدى بلدان الطوق، وإسقاط الأنظمة الرجعيّة العميلة المساومة في إحداها، تكون قاعدة لحرب شاملة مع إسرائيل.
ولدت الحلقات بعيداً عن رحم الحزب الشيوعي الرسمي. راهنت الحلقات على المكتب السياسي للحزب الشيوعي في بث الروح الثوريّة في خضم خلافاته مع زعيم الحزب خالد بكداش. بعد فشل الرهان ذاك، عقدت الحلقات مؤتمرها التأسيسي الأول في دمشق عام 1974 م، وكان الثاني بعده بعام أيضاً في دمشق. وفي حلب في صيف 1976م كان المؤتمر الثالث الذي حضره مئة وعشرون عضواً وأطلقت على نفسها “رابطة العمل الشيوعي”. الفصيل الماركسيّ اللينينيّ، يقوم ببناء فرع سوري للحزب الشيوعي العربي ويرمي إلى رفع وعي وتنظيم وتعبئة الطبقة العاملة وحلفائها لإنجاز الثورة الاشتراكية.
قدّمت الرابطة ومن ثم حزب العمل نموذجاً فريداً في سوريا من حيث التنظيم ونظامها الداخلي، فقد كانت قيادتها فعلياً جماعية تقودها هيئة مركزية من / 15 / عضواً ولجنة عمل من / 5 / أعضاء، اعتمدت الاستقلالية المادية وإلغاء منصب الأمين العام وتخلّصت بذلك من الضغوطات بجميع أشكالها ومن هاجس ديكتاتورية القائد، وحظيت باحترام منقطع النظير من قبل الفصائل الفلسطينية وبندّيّة التعامل معها. كان لوقع نكسة حزيران أثر بالغ في تاريخ رابطة العمل. حزيران الأسود الثاني، الذي تدخل فيه النظام السوري في لبنان للقضاء على المقاومة الوطنية، سرّع في إعلان رابطة العمل وكان التدخل ذاك طاغياً على المؤتمر. اعتبرت الرابطة التدخل السوري في لبنان غزواً، ووصفت النظام بالفاشي، وأنّ الغزو كان نتيجة تنسيق سوري أمريكي إسرائيلي لضرب الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، التي شارك أعضاء في الرابطة معها بالسلاح وبالكلمة والدعاية السياسية والتدريب. وأصدرت الرابطة ثلاثة عشر كراساً طبعت بمساعدة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان.
قامت الرابطة بأول نشاط عملي بضرب الطوق الأمني حول مؤتمر الشعب العربي المنعقد في فندق الشيراتون في دمشق، حيث وزعت الرابطة بياناً لها في غرف الوفود الضيفة.
طالتها أول حملة اعتقال قبل مضي ستة أشهر على تأسيسها، اقترح بعضهم بالرجوع القهقري إلى الحلقات، رفضت الأغلبية ذاك المقترح. ترك بعض أصحاب ذاك الرأي الرابطة إلى الأبد مع استعدادهم لتقديم الخدمات بعيداً عن الصفة التنظيمية.
توالت حملات الاعتقال على رابطة العمل الشيوعي بفواصل لم تتجاوز الستة أشهر. أتت الحملة الخامسة في آذار 1978 التي تولاها الأمن العسكري ذو الصيت الأكثر سوءاً بين الفروع الأمنية، لتقسّم القيادة بعد اجتماعها في نيسان إلى قسمين؛ قسم يذهب إلى لبنان يشرف على إصدار نشرتهم (الراية الحمراء) ويصبح احتياطياً يعود إلى الوطن في حال تعرض قسم الداخل الذي يشرف على التنظيم للاعتقال. صدر العدد 35 من الجريدة حاملاً في صدره شعار إسقاط السلطة وكان العدد الوحيد في مسيرة الراية الحمراء الذي حمل ذاك الشعار الذي سبب لها المتاعب بين الجماهير وساهم في نشر إشاعات النظام عنهم التي أساءت إليهم. رُفع الشعار عن صدارة الجريدة استرضاءً لأحد القياديين الذي أدرك صعوبة تحقيق ذاك الشعار بإمكاناتهم المحدودة ومدى تأثيره السلبي عليهم في مواجهة سلطة الاستبداد ملوّحاً باستقالته مع الاتفاق على عدم تجميد ذاك الشعار في أدبياتهم.
ظهرت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في مسلسل اغتيالات استهدفت فيه شخصيّات مرموقة من الطائفة العَلَويّة أو شغلت مناصب أمنيّة ليتوّج بمجزرة مدرسة المدفعية، المجزرة الطائفية المقيتة. في خضم ذاك المسلسل أطلقت السلطات سراح جميع المعتقلين اليساريين باستثناء الضباط الأربعة أعضاء الرابطة. حيث اجتمع كل من شغل منصب الهيئة المركزية واختير أحد عشر عضواً في تلك الهيئة مع أربعة احتياطيين، انبثق منها لجنة عمل من / 5 / أعضاء، قررت الخروج للعلن بعد محاولة اغتيال الأسد الأب لجس نبض السلطات التي لم تتوان عن اعتقالهم برهةً.
انعقد المؤتمر الأول والأخير للرابطة بين 1و6 آب 1981 في قضاء الشوف في لبنان، حيث أمنت رابطة الشغيلة في لبنان ذاك المكان بطلب من الرابطة على أن يكون تمويل المؤتمر ذاتياً. حضر المؤتمر / 55 / مندوباً من بينهم اثنتين من النسوة وتحوّلت الرابطة إثره إلى حزب العمل الشيوعي. عرف الأمن السوري بانعقاد المؤتمر بعد مرور عشرة أيام حيث اعتقل ثلاثة قياديين وقام بدعوة اثنين منهم ليحملوا رسالة إلى القيادة، مفادها أن الدولة ستمنحهم مكاتب ووزارات ومناصب وطباعة إصدارات الحزب وأدبياته أو أن عليهم اختيار المواجهة. رسالة كانت الغاية منها شق صفوف الحزب وإثارة البلبلة.
موقف الحزب من النظام لم يتغير قيد أنملة رغم الصراع الذي دار بينه وبين الإخوان المسلمين حيث لم يجد الحزب أية أرضية وطنية لذاك الصراع، وكثّف “نيرانه” على الطرفين وراهن على قيام قطب ثالث؛ قطب الجماهير، وكان النظام هو “الأقل سوءاً” في نظره، ذاك الصراع الذي انتهى بانتصار النظام في حربٍ خَلَت من الأخلاق والإنسانية.
لشهر حزيران وقعه في تاريخ حزب العمل. ففيه اجتاحت إسرائيل دُرّة الشرق وحاصرت بيروت لأكثر من شهرين، اجتياح فقد فيه العرب الكرامة، من إغلاق صنبور النفط جزئياً عن العالم في حرب أكتوبر، إلى دعوة العالم إلى فتح صنبور الماء عن بيروت العطشى. اجتياح سلامة الجليل ترسيخاً لحدود إسرائيل. في حزيران تحول حزب العمل إلى خلية نحل لا حدود لنشاطها؛ أصدر أكثر من عدد من رايتها الحمراء في كل شهر ووزّع المناشير وبيانات الإدانة للعالم أجمع، وخيّر حكام العرب فيها بين الحرب أو الرحيل. جمع الحزب التبرعات مع الفصائل الفلسطينية للمقاومة، طالب معتقلوه بالإفراج للانضمام إلى جبهات القتال ليُرحلّوا إلى سجن تدمر السيء الصيت بقرارٍ جاحد حاقد.
هاجم حزب العمل ياسر عرفات بعد الاجتياح ووقف مع أبي موسى ضده. واخترق الحزب اللجان الشعبية في المخيمات الفلسطينية لدرجة عدم تفريق سلطات الأمن السورية بينها وبين حزب العمل، التي كانت ترى في اللجان الشعبية حزب العمل.
شارك حزب العمل في احتفالات نيروز 1986م، حيث كان وقتها أي اقتراب بين العرب والكرد من الخطوط الحمراء عند النظام، وطالب بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره وإحقاق حقوقه الثقافية والإدارية المشروعة، وأن يكون نيروز عيداً وطنياً رسمياً ومنح الجنسية السورية للكرد المجرّدين منها ورفض المشاريع العنصرية بحقهم من حزامٍ عربي إلى تهجير، وشارك في مراسيم شهيد نوروز دمشق 1986، سليمان آدي، في مدينة القامشلي.
رغم تلك النهاية المأساوية لحزب العمل الشيوعي يلازمني شعور الفخر بشبابٍ أحمل جنسيّتهم وننتمي لوطنٍ واحد، حيث عمل النظام على تمييع العمل السياسي وبثّ الإشاعات للنيل من الأحزاب السياسية لتحتكر السلطة وتصادر المجتمع والحياة، وطننا الذي يعاني الآن من أتون أبشع أنواع الحروب الداخلية و ارتهن جلّ ساسته إلى القوى الخارجية التي اختلفت مبتغاها عن أهداف الشعب السوري في الحرية والكرامة؛ ساسة أمسوا دمى مسلوبة الإرادة وحناجر وأيادي لمموليهم، تلك التجربة التي أستطيع أقول من خلالها وبملء فمي: سوريا لن تنضب رحمها، هناك من رفض المساومة وبقي شامخاً رغم السلاسل والموت المحفوف بها، رغم المغريات المختلفة. جذوة الأمل باقية، لن ينال منها الطغاة، سيبقى الشهيد المقتول تحت التعذيب حلماً سرمدياً لن يتمكن منه الموت قط، لا لابنته فقط بل لنا جميعاً إلى أن يتعافى وطننا ونوقد شموع حريته على ذرى قاسيون وقمة شيخنا الأشم – جبل الشيخ -، فوق روابي عفرين الجريحة، على شواطئ بحرنا حيث نوارسه المحلّقة معلنةً السلام، وعلى ضفاف دجلة والفرات المتدفّقان أبداً.