جريدة السفير، العدد /10045/، تاريخ 16/3/2005م.
منذ مدة غير طويلة، يشهد الإعلام العربي اهتماماً بقضية الأكراد بفعل مؤثرات سياسية طارئة، ومناخات لم تكن مألوفة بالأمس، سواءً في العراق وتركيا أو سوريا وإيران بهذه الجدية أو تلك، وكذلك حيال أوضاع الجالية الكردية في لبنان بمستوى مناسباتي متقطع.
ونادراً ما يولي الإعلاميون العرب اهتماماً لائقاً بالقضية أعلاه، وذلك بتأثيرٍ متأت من خشبية السياسات الرسمية للنظام العربي، وفي مقدمته مؤسسات الجامعة العربية من جهة، وشعورٍ سائد لدى البعض بفعل تفسيرات خاصة بهم، تفيد بأنهم (خير أمةٍ أخرجت للناس..) لينظروا من علٍ في التعاطي مع الأكراد وغيرهم من غير العرب باعتبار أن هؤلاء (أعاجم) ليس إلا من جهة ثانية، أضف إلى ذلك افتقار مراكز البحث والدراسات العربية لوجود أبحاث أكاديمية رصينة وإصدارات دورية تلقي الضوء على حقائق ومعطيات القضية الكردية وتماسها المباشر وتداخلها مع قضايا العرب والمنطقة بوجهٍ عام من جهةٍ أخرى.
هذه العوامل الرئيسية الثلاث تبقى تفعل فعلها في تشويه الوعي لدى الإنسان العربي بوجهٍ عام وتدفعه باتجاه السلبية واللامبالاة كلما جاء ذكر الأكراد وكأنهم من كوكب آخر يبيتون الشرّ إن جاز التعبير.
إن السلبية واللامبالاة هاتين في الثقافة السائدة لدى الكثيرين في الوسط العربي غالباً ما توّلدان لديهم نزوعاً باتجاه العنصرية والشعور بالتفوق، فتثيران نعرات ضارة تشكل رافعة لحالة احتقان وحوادث مؤسفة واضطرابات تهدد السّلم الاجتماعي هنا وهناك نحن جميعاً بغنى عنها. ومن يكلّف نفسه عناء البحث والدراسة شريطة ألا يكون أسير أحكامٍ مسبقة وقوالب أيديولوجية يرَ بوضوح لا لبس فيه، أن الأكراد ليسوا (أقلية دخيلة) جاءت في غفلة من الزمن وسكنت كردستان شرق المتوسط وشمال الخليج بجوار سكان المنطقة الأصليين من فرسٍ وعربٍ وأتراك ليغدوا ضيفاً ثقيلا. فالأكراد ملة، شأنهم في ذلك شأن العرب وغيرهم من ملل وشعوب المنطقة، لهم لغتهم وتاريخهم وأعرافهم، يعيشون في مناطقهم التاريخية منذ القدم، يعتزون بكرامتهم القومية كما العرب يعتزون بها، ومن العبث التفكير بتذويبهم في بوتقة القومية العربية أو غيرها، كما يستسهل ذلك الكثيرون. إلا أنهم أي الأكراد تعرضوا أكثر وأشد من العرب لمآسي الحروب والتجزئة وفق مصالح وأهواء الدول الكبرى في مستهل القرن المنصرم، فباتوا منضوين في أطر كيانات جمهورية لأربع دول رئيسية في المنطقة هي تركيا وسوريا والعراق وإيران، تفصلهم عن بعضهم البعض أسلاك حدود سياسية مكرسة بالعديد من المواثيق والاتفاقات الدولية، فارتبط تطور ومصير كل جزء من الأكراد بمصير وتطور مجتمع ودولة، كلٍ على حدة، وليشكلوا واحدا من المكونات الأساسية لتلك المجتمعات التي تديرها أنظمة دولٍ شديدة المركزية عبر حكومات الأكثرية السائدة التي فشلت تماماً في احترام حقوق وخصوصية وجود تاريخي وحي لشعبٍ آخر هو الشعب الكردي. ليس هذا فحسب، بل لم تألُ نخب الأكثرية العربية جهداً في اعتماد مناهج وسياسات التعريب والتهميش، بهدف طمس معالم الوجود الكردي للحؤول دون تبلوره، مستخدمةً في ذلك أكثر من خطاب ووسيلة، مما أثار ويثير لدى الأكراد بوجهٍ عام شعوراً بالغبن والأسى، فتكونت إشكالية معادلة جانبها الأول نظام عروبي سلبي يستقوي بنفوذ وقدرات أكثر من دولة وتيار عقائدي، وجانبها الثاني أكراد مهضومو الحقوق ومكبلون بقيودٍ عديدة، إلا أنهم تاريخياً يأبون الخنوع وقبول حالة المظلومية هذه، فيعصون أوامر وأهواء أخيهم الأكبر، سواء كان ذاك العروبي المتلحف بعباءة الإسلام ويحوز عضوية اثنين وعشرين مقعدا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو التركي وريث الخلافة العثمانية الذي يتمتع بعضوية حلف الأطلسي ونفوذٍ دوليٍ إقليمي واسع، أو الفارسي وريث البلاط الشاهنشاهي صاحب شبكة مصالح وعلاقات قوية مع كثير من الدول والمنظمات متعددة الجنسيات… فتتلاحق خطى هذا المثلث الإقليمي الدولي (عربي، تركي، فارسي) المتوجس حيال كل ما هو كردي، لينسق أطرافه أدوارهم بصدد القضية الكردية بغية إبقائها دون حل. وهنا تجدر الإشارة إلى غنى وسعة الفضاء العربي الرسمي منه والأهلي، بحيث كان ولا يزال من المأمول لدى الأكراد أن يلعب الساسة العرب وكذلك رجال الفكر والقلم منهم دوراً إيجابياً متوازناً لدى تناول الشأن الكردي وأهمية الواجب القيمي الحضاري المتجسد بوجوب الإقرار دون تردد بحقيقة وجود شعب كردي له قضية عادلة وحقوق أسوةً بالغير، من الخطأ الكبير الاستمرار في تهميشه وإقصائه.
إن الخطوة الأولى على طريق تعريف الرأي العام العربي بحقيقة القضية الكردية ومشروعية نضالات الشعب الكردي الدفاعية في هذا البلد أو ذاك، تتمثل بإقدام المثقفين والإعلاميين العرب على تناول هذه القضية بجدية أكثر، بغية الإحاطة بجوانبها كاملةً، وذلك تجنباً للوقوع في أسر مساعي تسويق الخطاب السلطوي العروبي الذي لطالما هو فاقد لمصداقيته لدى الأكراد وكذلك لدى الكثيرين من العرب، فضلاً عن أن إفساح المجال أمام أصحاب القضية أي النخب الكردية من مثقفين وساسة وفعاليات، ليعبروا عن آرائهم عبر الإصدارات العربية، سوف يساعد على بلورة معطيات الواقع الكردي وحقيقة الإشكالية القائمة بين الكرد والعرب، وتبيان الجدوى من إبقاء الأكراد محرومين من التمتع بحقوقهم القومية المشروعة وطمس هويتهم الثقافية.
نزعم في هذا السياق على سبيل المثال أن أكراد سوريا يشكلون أحد أبرز مكونات المجتمع السوري، فهم يشكلون ثاني أكبر قومية بعد العرب، ويناهز تعدادهم المليونين وفق إحصاءٍ تقديري في أواسط العام 2000 إلا أنهم محرومون من ممارسة أي حق من حقوقهم القومية الطبيعية بما فيها فتح مدارس بلغتهم الأم التي ينطقون بها أباً عن جد، إلى جانب تعرضهم للعديد من صور وأشكال التمييز والاضطهاد، كونهم أكراداً ليس إلا.
وبرغم الكثير من الوعود الصادرة عن كبار مسؤولي الدولة السورية منذ انقلاب 8 آذار 1963، إلا أنه لا يزال الواقع كما هو والمعاناة على أشدها. وجميع المذكرات والرسائل الموثقة بهذا الخصوص التي وجهتها المنظمات الحقوقية العربية منها والدولية إلى الحكومة السورية، لم تلق آذاناً صاغية، ما يزيد من اغتراب الأكراد ويعمق شعورهم بالمظلومية، وهنا تبرز أهمية وحيوية الدور الذي من المفترض أن تلعبه النخب العربية في توضيح وتحديد المسؤولية، حيث إن الإجابة عمَّنْ يسيء إلى مَنْ؟ ومَنْ يهضم حقوق الآخر؟ سوف تخدم وتصب في مجرى العمل على طريق إحلال الألفة والتفاهم بين الكرد والعرب، بدلاً من الجفاء والتخاصم الذي يتأتى أصلاً من سياسات وسلوكيات معينة لقوى عروبية لا يجوز تحميل المواطن العربي وزرها. ففي العام 1988 وإثر تعرض مدينة حلبجة العراقية يومي السادس عشر والسابع عشر من شهر آذار لقصفٍ كيميائي أودى بحياة أكثر من خمسة آلاف من المدنيين الأكراد، تقاعست في حينها معظم النخب العربية وآثرت الصمت، وذهب البعض إلى حد التنكر لما جرى، وآخرون سعوا الى تبرير ذلك، ضاربين بعرض الحائط حجم المآسي الإنسانية التي حلت بسكان حلبجة المنكوبة وضواحيها، ما أثار هذا التعاطي العروبي الإسلاموي مع الشأن الكردي استياءً عميقاً لدى عموم الأكراد، تسبب بإحراج الأوساط المتنورة منهم التي سرعان ما تلقفت ما أعلنه الرئيس الجزائري الأسبق السيد أحمد بن بللا من موقفٍ نبيل، وكذلك الباحث العربي الراحل هادي العلوي… حيث سجل هذان الرمزان العربيان في حينه موقفاً تاريخياً ومسؤولاً ساعد كثيراً المتنورين والديموقراطيين الكرد في مسعاهم الحثيث ليؤكدوا لوسطهم الكردي أن ليس كل العرب من نمط من يغضون الطرف عما فعله نظام صدام حسين في حلبجة.
إن ما سبق ذكره يشكل شاهداً على حقيقة وجود إشكالية في العلاقة بين الكرد والعرب، من الواجب والممكن حلها، بحيث إن تلاقي وتحاور النخب العربية والكردية وتنشيطها دون استعلاء أو شعورٍ بالتفوق من هذا الجانب أو ذاك، تمهد السبيل لغدٍ أفضل تسوده المودة والتفاهم بين الشعبين الكردي والعربي. فالبحث في الطريق نحو حل إشكالية العلاقة هذه يبقى مندرجاً في إطار تناول قضايا مجتمع ودولة، من العبث والسذاجة التفكير في تفكيك وحدة كيانها السياسي والسيادي، وهذا لا ينفي مشروعية النقاش والتحاور بصدد صيغ وأشكال إدارة الدولة، خصوصاً أنه بات من شبه المسلم به أن الركون إلى مركزية الدولة في كل صغيرة وكبيرة لم يجلب خيراً، بقدر ما جلب من فساد وتخلفٍ وخراب، ناهيك بامتهان كرامة وحقوق الإنسان، وجعل المواطن مغترباً في وطنه بصرف النظر عن انتمائه القومي أو الديني، يعتريه الشك والقلق من اللجوء إلى القضاء لهزالة استقلاليته، ويتردد بل غالباً ما ينكفئ ويستنكف عن إبداء رأيٍّ حر في قضايا تمس صلب واقعه ومستقبله، وذلك خوفاً على حياة أسرته في ظل حالة طوارئ ومفاعيلها من فصلٍ من العمل واعتقالٍ كيفي، وصولاً إلى تشهيرٍ بالسمعة و(تخوين)…الخ، وكلها من ثمرات الركون إلى صيغة مركزية الدولة عبر منطقٍ أمني يعود لنمطية حكم الحزب الواحد الذي يقود الدولة والمجتمع كما كانت عليه الحال في ألبانيا زمن أنور خوجة والعديد من بلدان أوروبا الشرقية بانتخاباتها الصورية، التشريعية منها والمحلية والنقابية، وغياب حرية الصحافة وقانون ينظم عمل الأحزاب ويحترم خصوصية المكونات الرئيسية للمجتمع الواحد، بغية نزع فتيل التوترات القومية وكبح النزوع القبلي كي تتصدر وتتبلور أسس ومفهوم المواطنة والمجتمع المدني، ولتستعيد مؤسسات الدولة أدوارها السليمة لتغدو دولة الحق والقانون، وتنشط الأحزاب السياسية في التباري والاختلاف بحثاً عن الحقيقة، وفق ثقافة اللاعنف والاتعاظ بسيرة وفكر مهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ، للشروع دون تردد بفتح صفحة جديدة من التعامل والحراك بين مختلف أطياف ومكونات المجتمع ، وصولاً إلى وحدة العمل لطرح مشروع دستورٍ جديد يسد الطريق أمام هيمنة ومفهوم حزبٍ واحد يلهث ويتهافت للإبقاء على استئثاره بمقدرات بلد، ويقولب انتخابات المؤسسات التمثيلية وفق أهوائه، ويطمس حقيقة وجود تاريخي حي لقومية أخرى، ليشطب على كامل حقوق أبنائها. وهنا من المفيد الإشارة إلى فحوى دستور الدولة الإسبانية ونمط تعاملها مع مواطنيها الباسكيين وما يتمتعون به من حقوق قومية وإدارية مشروعة، وكذلك دستور بلجيكا ونمط تعاملها مع مواطنيها الفلمنكيين، فضلاً عن غنى التجربة الهندية في هذا الصدد.
في ضوء هذا الفهم، فإن الأجندة الكردية على الصعيد البرنامجي العملي واضحة، وتتلخص بالسعي لإيجاد حل حضاري للمسألة الكردية في إطار حماية وحدة الدول القائمة، لا العمل على تقسيمها أو اقتطاع أجزاء منها كما يروق للبعض الترويج له. ففي سوريا على سبيل المثال، ورغم أنه ليس من المنتظر والمأمول أن ترى المسألة الكردية حلاً لها في ظل الوضع القائم، إلا أن الرهان الكردي يظل متمحوراً على الخيار الوطني الديموقراطي الذي لا رجعة عنه، لأنه الخيار الصحيح والأمثل.
———————–
* سكرتير حزب الوحدة الديموقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).
ونقلاً عن الجريدة، بذات اليوم، نُشر المقال في موقع نـوروز:
http://www.yek-dem.com/moxtarat=6-16-3-2005.htm