في ظلِّ تفاقم الأزمات الدوليةِ التي تزدادُ حِدّةَ، والصراعِ المحتدم على النفوذ ومكامن الطاقة والثرواتِ الطبيعية بين القوى الدولية العظمى، التي نجمَ عنها إضعافُ الشرعية الدولية ومؤسساتِها إلى حدٍّ كبير، واندلاع حروبٍ طاحنةٍ في العديد من بقاع العالم (المشرق العربي، شمال إفريقيا وأوربا)، تلك التي تتركُ خلفَها مئات آلاف القتلى والخراب والدمارَ، إضافةً إلى الانفجار السكاني المنفلت من أي تحكم أو تنظيم، حيث بلغ عددُ سكان المعمورة في تشرين الثاني الماضي عتبة الـ /8/ مليارات نسمة، مما يشكلُ بدوره تحدياً حقيقياً ومسؤولية عالمية لتأمين متطلبات حياتهم الأساسية، عدا عن التلوّث البيئي والارتفاع المضطرد لدرجة حرارة الكوكب والتغيرات المناخية الناجمة عنها، ناهيكَ عن مخاطر استخدام السلاح النووي الذي يشكّلُ أحدَ أكبر التهديدات الجدية على الحياة!… إلخ.
تتعامي القوى والجهاتُ التي تتحكّمُ بمفاصل القرار الدولي عن رؤية كلِّ هذه الحقائق والمخاطر، وتستمرُّ في التصارع فيما بينها لأجلِ تحقيق أهدافٍ صغيرةٍ للغاية، قد تخدمُ سياساتِ حكوماتها المرحلية ومكاسبَ مادية مؤقتة، ناسيةً الهدفَ الأسمى الاستراتيجي والواجبَ الملقاة على عاتقها المتلخصَ في حماية الحياة من العبث والأخطار التي تهددُ الوجودَ البشري، كقوى كبرى تستطيعُ الفعلَ والتغييرَ في هذا الاتجاه!
فمن الواضح والمخزي اليومَ أنّ الشعبوية ومخاطبة أمزجة الناس قبل عقولهم على المستوى الإقليمي والعالمي باتتْ سياسةَ غالبةَ لدى الحكومات التي سرعان ما تتناسى وعودَها الانتخابية، ونتيجة الحروب ونزوح المواطنين بأعدادٍ كبيرةٍ من بلدانهم المنكوبة والبحث عن الأمان، نجدُ صعودَ نجم اليمين المتطرف والنازية والعنصرية حيال الأجانب في العديد من الدول الأوربية وأمريكا. وعلى الضفة الأخرى، يتمُّ نشر ثقافة الكراهية التي تقومُ بها جماعاتُ الإسلام السياسي السلفي كالقاعدة وداعش وجبهة النصرة وجماعة الإخوان المسلمين المشبعة بالحقد وتضخُّها عبر إعلامها، حيثُ تديرُها دولة تركيا الكمالية التي يحكمها اليوم تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المتطرف بأذرعِه العسكرية كتنظيم الذئاب الرمادية، التي تمارسُ القتلَ بحق المعارضين بدواعٍ قومية عنصرية وتمويلٍ سخي من دويلة قطر ودولٍ خليجية أخرى، تركيا التي لا تكفُّ عن استثمار أية قضية لخدمة أهدافها التوسعية ومعاداة القضية الكردية بكل ما أوتيتْ من قوةٍ ومكانة، مثلما استخدمتْ تنظيمَ داعش والإخوان والمسلمين أمس، وتستغلُّ مكانتَها في حلف الناتو اليومَ لفرض شروطها على كلٍّ من دولة السويد وفنلندا لانضمامهما إلى الحلف المذكور، وتدخلّها العسكري في كلٍّ من ليبيا والخلاف بين أذربيجان وأرمينيا وغيرها الكثير… كلّ هذه الأمور لا تناسبُ عصرَ التطور التكنولوجي والتقني الذي يجبُ أن يتمَّ تعزيزُه بالسلام وثقافة التسامح والعيش المشترك بين الأديان والأقوام والطوائف ونبذ العنف والتطرف.
هناكَ قضايا جوهرية على الساحة الدولية يجبُ ألا تخضعَ لميزان الربح والخسارة المرحلية، بل يجبُ أن تخضعَ لمعاييرَ استراتيجية بعيدة المدى، وتستوجبُ من القوى الكبرى التحاورَ حولها بروحٍ مسؤولةٍ رغم الاختلاف في الكثير من القضايا الاقتصادية والسياسية بينها، والتي تأتي الملاحظاتُ أعلاه في سياقها، لأنّ مثل هذه التكتيكاتُ في النهاية تلحقُ الضررَ والأذى بجميع شعوب المعمورة دون استثناء بما فيها شعوبُها هي، لأنّ الدول الكبيرة والصغيرة وسكانُ الكوكب كلهم شركاءٌ في البيئة والمناخ وقضايا الحرب والسلام.
إنّ السؤال الذي يفرضُ نفسه بقوة ويحتاجُ جواباً هو: ترى، هل من المعقول والمنطق أن تُسَدَّ كلُّ الطرق والأبواب أمام الحوار لحل قضايا الخلاف بين البلدان ولا يبقى سوى خيار الحرب؟! وهل الحرب هو الحلُّ؟ إن الجوابَ واضحٌ للعيان، ألا وهو أن الحروبَ لم تكن يوماً حلولاً لقضايا الخلاف لصالح الشعوب التي تكمنُ مصالحُها أصلاً وقبل كل شيءٍ في السّلام، بل هي كانت دوماً بمثابة الزيت الذي يُصَبُ على النار ليزيدها وهجاً ولهيباً لتحرقَ الأوطانَ بمَن فيها! هنا، من الضرورة بمكانٍ أنْ نذكّر أنّ مبدأ تعامل المرءِ مع الآخر يجبُ أن ينطلق من رغبته في تعامل الآخر معه، هو البداية الصحيحة لحلّ قضايا الخلاف الناشئة، مع الإشارة إلى ضرورة وجود قوة عسكرية رادعة برعاية دولية حكيمة تحمي السلم العالمي من التجاوزات المحتملة لطغمٍ عسكريةٍ ماليةٍ انقلابية هنا أو هناك.
ودرءً لاندلاع أية حروبٍ دولية مؤلمةٍ جديدة وانعكاساتها الكارثية على الحياة والتطور الفكري والتقني الراهن، فإنّ أولويات الوطنية الحقة تفرضُ على هذه الحكومات مجتمعةً أن تعودَ إلى مراجعها الفكرية الفلسفية الاجتماعية، ودعوتها لعقد جلساتٍ استشارية معمقة لصياغة عقدٍ معاصرٍ جديدٍ مبنيٍ على حماية الحياة والإنسان بنظرةٍ شمولية، عقدٍ ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان ونبذ القوة والعنف ولغة الحرب ومنطق التوحش وإخضاع الآخر المختلف بالقوة في تناول حلِّ قضايا الخلافات الدولية القائمة والناشئة، وإعطاء الأولوية لقضايا المناخ والبيئة والعدالة ونشر الثقافة المعاصرة وثقافة تنظيم الأسرة، ورفع الغبن عن الشعوب المظلومة تاريخياً ومنحها حقوقها القومية لتقرير مصيرها بعيداً عن منطق الوصاية والاستعلاء القومي الذي يُنتِجُ الكراهية ويولد الحروبَ، والإقرار بحق الشعب الكردي في وطنه بحياة حرّةٍ كريمة كسائر شعوب المعمورة وفق بنود ومواثيق الهيئة الدولية، والإقرار بحقوق كافة الشعوب المظلومة، فتعمّ الحرية والسلام كافة بقاع المعمورة بدلاً من الحرب والدمار.
من الملاحَظ أنه بسبب الخلافات بين القوى العظمى ولأسبابٍ تكتيكية قاتلةٍ، يتمُّ اليوم التساهلُ المريع مع الإرهاب ورعاته على مستوى العالم بغية استخدام أدوات الإرهاب ضد خصومها الاقتصاديين، كما حدثَ أمس في أفغانستان التي تمّ تسليمُها من جانب أمريكا لقوة ظلامية متطرفة هي حركة طالبان ربيبة منظمة القاعدة التي لا تختلف عن داعش كثيراً، حيث تقوم اليوم رسمياً وباعتراف دولي! بتأسيس دولةٍ دعائمها التطرف والفكر الإرهابي الذي سوف تنعكسُ آثارُ سياساتها في قادم الأيام على شعوب العالم قاطبةً، إضافةً إلى تساهلها الواضح مع رعاة تنظيم داعش الإرهابي كدويلة قطر والحكومة التركية الحالية ورئيسِها الذي لا يتورّعُ عن استثمار أية قوة أو مافيا مالية مهما كانت ضليعةَ في القتل والإجرام لتحقيق أهدافه وأجنداته التوسعية المعروفة، ولا نعتقدُ بأن القوى الدولية لا تدركُ حقيقة هذه الأنظمة المتورطة في تقديم الدعم والرعاية للتنظيمات الإرهابية، لكنها تمارسُ تكتيكاً عنوانُه مجاراة الواقع كي لا تستفيد منه خصومها الآخرون، وفي ظلّ هذه اللامبالاة، تنتعشُ القوى الظلامية وتُوسع قاعدتها بين أوساط الفقراء والمحتاجين، إذ تجدُ المناخَ الملائم لنشرِ أفكارها، لتصبحَ قنبلة قابلة لتفجير أي جزءٍ من العالم عند اللزوم، كما أنّ روسيا الاتحادية التي لا تتورّعُ عن ترديدِ مقولاتٍ من قبيل نوايا الكرد في شمال وشرق سوريا تشكيلَ دويلة(!) كردية انفصالية في سوريا بدعمٍ أمريكي، في الوقت الذي تعرفُ فيه هي قبل غيرها بأنه ليس للكرد أية مشاريع لتقسيم سوريا وتشكيلَ دويلاتٍ مزعومةٍ، بل هم يطالبون بتثبيت حقوقهم دستورياً في سوريا ديمقراطية موحدة، وبذلك، فهي تساهمُ بدورها في التضليل وإيهام الرأي العام العالمي.
فإنْ لم يبادر الفلاسفة وعلماءُ الاجتماع والنشطاء المثقفون من أصحاب الضمائر الحية الغيورون على مستقبل العالم في البلدان الكبرى للقيامَ بواجبهم في لجم هذا التوجّه الخاطئ والخطيرِ لقادة بلدانهم، ووضع حدٍّ لهذا الاستهتار المخيف بالفكر والبيئة وحقوق الإنسان، فإنّ مستقبلاً حالكَ السواد، وهاويةً سحيقة تنتظرُ العالمَ!
* جريدة الوحـدة – العدد /341/- 15 آذار 2023م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).