ذكرني قراءة بيان الخارجية الأمريكية بصدد هجمات الحكومة التركية المتكررة على المناطق الكوردية على طول الحدود شمال سوريا والعراق بحقيقة مرّة، راسخة ومنسية، وهي أنّ الحركة القومية الكوردية في سوريا بشقيها الأيديولوجي والمطلبي لم تتمكن من الخروج طوال نصف قرن من الساحة الأمنية. بمعنى أكثر وضوحاً، أن الحكومات المتعاقبة على حكم سوريا والمناطق الكوردية التي أُلحقت بها قد عملت وتفننت في تأطير هذه المسألة السياسية والثقافية ضمن إطار أمني صرّف، وبناءً على هذا التصنيف تعاملت مع جوهر المسألة الكوردية في سوريا ومحيطها الكوردستاني. وقد استمدت الحكومات السورية جانب من مشروعية هذا التصنيف من مؤازرة دولتي الجوار تركيا والعراق، اذ تعاونوا جميعاً لتأصيل وترسيخ هذه السّمة. امتداداً وسيراً على نفس المنهج حرصت الحكومة السورية الحالية على أن تستمر هذه التقاليد، وعدم زعزعة الوضعية التوافقية على هذا التصنيف، وإن توفرت فرصة موضوعية أواخر سنة 2011م لكي تخرج الحركة الكوردية السورية من إطارها الأمني إلى الضوء والعلنية، بحيث يتم التعامل معها سياسياً. كانت تلك الفرصة المفترضة ستبدأ مع الاجتماع مع رئيس الجمهورية بشار الأسد صيف 2011م بصفته الرسمية، حيث كان من المقرّر أن يتمخض عن الاجتماع تموضع سياسي جديد للأحزاب التقليدية الكوردية في الساحة السورية. بمعنى أوضح، شرعنة النشاط السياسي والإعلامي والدبلوماسي لهذه الأحزاب واعطائها بعداً مدنياً، بما فيه قيامها بدور الوسيط بين الحركة الاحتجاجية الناهضة عهدئذ في عموم سوريا وحكومة دمشق التي قررت مواجهتها بأدوات العنف. لكن هذه الفرصة قوّضت من قبل بعض متزعمي الأحزاب الكوردية لصالح الانخراط في حركة معارضة غير واضحة الأهداف والمعالم، وقليلة التجربة تُقاد من خارج الحدود. حدث ذلك انسجاماً مع المناخ السياسي الذي سيطر على مسار المسألة السورية، حيث تمكّن أنصار الحلّ الأمني والحلّ العسكري في أعلى هرم السلطة بدمشق من جرّ كل الأطراف إلى ميدان معركة دموية، بما فيه أطراف كوردية كانت قد بلورت مقاربتها الخاصة للمسألة السورية وطبيعة الحراك الجماهيري.
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على هذه البدايات الواعدة لم تراكم الحركة الكوردية الخبرة ولم تتمكن بعد من الخروج من الإطار الأمني – العسكري الذي فُرض عليه منذ أمد بعيد، فهي إما تخوض المعارك العسكرية بالأصالة عن نفسها، أو تتبع جهات من المعارضة السورية المسلّحة. على الرغم من المحاولات المتكررة لأطراف وشخصيات من داخل هذه الحركة لترجيح توجهاتها السياسية والمدنية، وتوجيه مسار الحركة الكوردية السورية باتجاه مدني ومطلبي.
لقد اتضح، بعد سنوات قليلة من تفاقم الصراعات الداخلية والخارجية على مستقبل سوريا، أنه تم ابتلاع القضية الكوردية بخصوصيتها، وتم جرّفها إلى داخل دوامة المسألة السورية المعقّدة، التي تم عسكرتها تماماً وإدراجها ضمن المخططات الأمنية والصراعات الاستخبارية في المنطقة. ولا يشذّ عن هذا المنهج عملية التدخل العسكري للدول المتحالفة تحت شعار محاربة داعش.
يمكن الافتراض، بعد سنوات من الصراعات والمتغيرات الديمغرافية والعسكرية على الأرض، أن الإدارة الذاتية الديمقراطية التي تسيطر عملياً على نصف مساحة سوريا المفيدة، بمعنى أنها تحكم نصف المساحة المأهولة بالسكان في سوريا، والتي تقدر بحوالي (50) خمسين ألف كيلومتر مربع، هذه الإدارة التي قوّضت أرضية المنظمات الإرهابية بدماء خيرة أبناءها وبناتها وقدّمت تضحيات عظيمة، لم تتمكن أن تتحول الى إدارة مدنية، وكان من المتوقع لها أن تبقى عسكرية بثقلها، وذلك لطبيعة وبنية القوى التي تقودها، وجسامة المهام التي تواجهها. حتى ظلّت بحكم نفس العوامل المؤثرة على الساحتين السورية والإقليمية إدارة أمنية – عسكرية. ولقد استنتجنا منذ أمد بعيد أن جهات عدة تريد لهذه الإدارة أن تبقى مجرد حالة أمنية – عسكرية مؤقتة. وهنا يكمن بالضبط الخطورة على مستقبلها ومستقبل المجتمعات المحلية التي استفادت من إدارتها وحمايتها.
ما شجّعني على هذا الترجيح الفاقع في الرأي هو قراءة بيان الخارجية الأمريكية المختزل حول الهجمات الأخيرة للمؤسسات التركية العسكرية على المناطق الكوردية وعلى مؤسسات الإدارة الذاتية المختلفة، بما فيها منشآت البنية التحتية والخدمية، بهدف زعزعة أركان الإدارة الذاتية والتمهيد لاجتياح عسكري تركي بمساعدة فصائل ومجموعات تحت مسمى المعارضة والجيش الوطني السوري. هذا الاجتياح الذي إن وقع سيعيد بالمجتمعات المحلّية إلى مربع عدم الاستقرار والفوضى التي كانت سائدة قبل سنوات في مناطق شمال وشرق سوريا.
فبيان الإدارة الأمريكية يؤكد ما سبقت الإشارة إليه: بمعنى استمرارية اللوثة والسمة الأمنية التي تلطخت بها أحزاب الحركة الكوردية، وانسحبت على المسألة الكوردية في سوريا بشكلٍ عام، وأخيراً على الإدارة الذاتية.
قراءة بيانات وتصريحات الإدارة الأمريكية تؤكد على ما سبق الإشارة اليه، ففي البيان الصحفي الصادر عن المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022م رجّح الجانب الأمني الصرّف في تناول الحدث: “تعرب الولايات المتحدة عن أحرّ التعازي لخسارة مدنيين في كل من سوريا وتركيا. ونحث على خفض التصعيد في سوريا لحماية أرواح المدنيين ودعم الهدف المشترك المتمثل بهزيمة تنظيم داعش. ونواصل معارضة أي عمل عسكري غير منسّق في العراق ينتهك سيادة البلاد”.
كان البيان الذي صدر بعده بيومين عن وزارة الخارجية الأمريكية في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022م أكثر وضوحاً، اذ لم يتضمن أي إشارة إلى حقوق المجتمعات المحلّية ولم يحمل أي محتوى سياسي يشير إلى وجود مسألة كردية أو إدارة ذاتية ديمقراطية أو غير ديمقراطية: “تحث الولايات المتحدة على خفض التصعيد بشكلٍ فوري في شمال سوريا، إذ نشعرّ بقلق بالغ إزاء الأعمال العسكرية التي شهدتها المنطقة مؤخراً والتي تزعزع الاستقرار هناك وتهدد هدفنا المشترك المتمثل بالقضاء على تنظيم داعش وتشكل خطراً على المدنيين والأفراد الأمريكيين. نتفهم أن لتركيا مخاوف أمنية مشروعة ذات صلة بالإرهاب، ولكننا أعربنا بشكل متكرر عن مخاوفنا الجدّية بشأن تأثير التصعيد في سوريا على أهدافنا المتمثلة بالقضاء على تنظيم داعش وكذلك تأثيره على المدنيين عند جانبي الحدود. ونعرب عن خالص التعازي لسقوط مدنيين في كل من سوريا وتركيا”. بل تضمن ما هو أسوأ، أي “تفهم لمخاوف تركيا الأمنية”! وإهمال لأي خصوصية أو مصلحة سياسية واقتصادية لمجتمعات قائمة على الأرض، باتت ضحية لسياسات الأنظمة التي تمارس العنف والاضطهاد. تكرر نفس الموقف في تصريح البنتاغون الذي يفترض قربه من (قسد) وتعاطفه الميداني مع الإدارة الذاتية. يعزى إلى المتحدث باسم البنتاغون البريغادير الجنرال بات رايدر، 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2022م: “تشعر وزارة الدفاع بقلق بالغ إزاء أعمال التصعيد في شمال سوريا والعراق وتركيا، إذ يهدد هذا التصعيد التقدّم الذي أحرزه التحالف الدولي لهزيمة داعش على مرّ سنوات لإضعاف التنظيم والتغلّب عليه. لقد هددت الضربات الجوية على سوريا مؤخراً وبشكلٍ مباشر سلامة الأفراد الأمريكيين الذين يعملون في سوريا مع الشركاء المحليين للتغلّب على تنظيم داعش والاحتفاظ باحتجاز أكثر من عشرة آلاف معتقل من التنظيم. بالإضافة إلى ذلك، تهدد الأعمال العسكرية غير المنسّقة سيادة العراق، وخفض التصعيد الفوري ضروري لمحافظة التركيز على مهمة التغلب على داعش وضمان سلامة وأمن الأفراد الميدانيين الملتزمين بهذه المهمة. وندين سقوط ضحايا في صفوف المدنيين في كل من تركيا وسوريا نتيجة لهذه الأعمال ونتقدم بأحرّ التعازي. ونشعر أيضاً بقلق بالغ إزاء التقارير التي تشير إلى استهداف البنية التحتية المدنية عن قصد. ونقرّ فيما ندعو إلى خفض التصعيد، بمخاوف تركيا الأمنية المشروعة، وسنواصل مناقشة موضوع الحفاظ على تدابير وقف إطلاق النار مع تركيا وشركائنا المحليين”.
أما آخر تصريح للسفيرة ليندا توماس غرينفيلد، الممثلة الدائمة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في الجلسة الخاصة بسوريا يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022م، فلم تضيف أي محتوى سياسي لمواقف الإدارة الأمريكية. بل أكدت على التناول الوظيفي الأمني لعموم المسألة الكوردية وإدراج دور سلطة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في هذا السياق، مع بعض الخصوصيات اللوجستية: ” وبينما نعمل من أجل تحقيق سلام مستدام، ينبغي أن نعالج الوضع في مخيمي الهول وروج اللذين يأويا الآلاف من مواطني الدول الثالثة، وكذلك وضع مراكز الاحتجاز في شمال شرق سوريا.” (*)
خلاصة ونتائج: لم يرد في جميع البيانات الرسمية الأمريكية أي محتوى أو إشارة سياسية إلى الإدارة الذاتية ولا إلى أي إطار سياسي كوردي آخر، ولم تلحظ خصوصية المجتمعات المحلّية، وليس في مضامينها أي مقاربة للمسألة الكوردية، لا من قريب أو بعيد، وإنما طغى على الخطاب الأمريكي المصالح الأمنية التركية وضرورة مراعاتها، ومن ثم سلامة الأفراد الأمريكيين وكذلك بقاء سجناء داعش في معتقلات آمنة. علماً أنّ وزير الخارجية بلنكين تجنّب طوال الأسابيع الماضية التطرّق لمنطقة النزاع هذه، مع توفر مناسبات وفرص عديدة لذلك. وبالتالي تنكشف من جديد وفي خضم هذه المرحلة العصيبة رؤية الإدارة الأمريكية إلى المسألة الكوردية في سوريا التي اختزلت موضوعياً كحالة لمواجهة داعش، كما اختزلت حالة المواجهة هذه من منظور أمريكي في وظيفة (قسد) بوصفه جسماً عسكرياً صرّفاً عليه القيام بقتال خلايا داعش وحماية آبار النفط، وحراسة السجناء من عناصر المنظمات المتطرّفة، وكذلك الحفاظ على أمن تركيا، بالصيغة التي تريدها الحكومة التركية. علماً أنه من الصعب تحقيق شروط (الأمن القومي التركي) على اعتبار أنها تربط بين الحجّة المسوقة ضد الإدارة الذاتية وقسد ومشكلتها التاريخية الداخلية المرتكزة أساساً على سياسة إبادة الشعب الكوردي وإلغاء وجوده الثقافي والسياسي، وبالتالي لجم أي نشاط تحرري كوردي في سياق المستجدات والدينامية السياسية والعسكرية على ساحة شمال وشرق سوريا وحتى ضمن كوردستان العراق.
لقد انحازت السياسة الأمريكية بشكل علني وسافر إلى سياسات الدول التي تقتسم كوردستان وتضطهد الأمة الكوردية، وحرصت على تبني منظور الأمن القومي لهذه الحكومات والدول بشكلٍ أو آخر، أما لماذا حدث هذا الانزياح؟ فللظاهرة جذورها وسياقاتها، لكن ما هو ظاهر أنّ النخب السياسية الكوردية هي التي بلعت الطعم منذ أمد بعيد، إذ لم تخرج المسألة الكوردية من الساحة الأمنية، ومازالت تستكين لهذه الوظيفة التي انيطت بها من قبل الأمريكان وغيرهم.
إنّ عملية الخروج من الأزمة، تتطلب تأمين الأرضية وتوفير المناخ لكي تستعيد الحركة الكوردية وظيفتها السياسية المغيبة، وينبغي في هذا السياق تحويل الإدارة الذاتية إلى إدارة مدنية، ليست وظيفتها حراسة سجناء داعش ولا حماية حدود تركيا، وإنما السعي للتموضع من جديد، وطلب المساعدة من المجتمع الدولي لتتمكن من إدارة مجتمعاتها المحلية بصيغة مدنية، وتحويل كل قواتها العسكرية نحو حماية هذه المجتمعات وتوفير سبل الحياة الكريمة والسلام الداخلي لها.
(*) جميع البيانات مصدرها الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية.
* جريدة الوحـدة – العدد /340/- 06 كانون الثاني 2022م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).