القسم العاممختارات

جريمة اغتيال الصدر الأعظم مدحت باشا على يد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني

الترجمة عن الكردية: نواف بشّار عبد الله

عن جريدة «كردستان» الأعداد (22-23-24-25) سنة 1899

مجلة الحوار – العدد /79/ – السنة /29/ – 2022م

في جريدته «كــــردستان» الصادرة باللغة الكردية والأبجدية العربية، نشرَ الأميرُ عبد الرحمن بدرخان بك تفاصيلَ جريمةِ اغتيالِ الصدر الأعظم للدولة العثمانية (رئيس الوزراء) مدحت باشا، الرجل العصامي الذي لم يخضعْ لأهواءِ وأمزجة السلطان عبد الحميد. وفي افتتاحيات أربعة أعدادٍ متتاليةٍ منها (22-23-24-25) سلطَ الأميرُ المزيدَ من الضوءِ على هذه الجريمة التي ارتكبتْها الأيادي الآثمة للسلطان عبد الحميد بحقِّ رجل دولةٍ أفنى عمرَه في خدمة شعبهِ ووطنه. ونظراً لأهمية البحث، قمتُ بترجمته إلى اللغة العربية، آملُ أن أكون وفقت فيما ذهبتُ إليه. (المترجم)

في العدد 22 من جريدة كردستان الصادر في 1 شوال 1317 هجري الموافق 2 شباط 1900م، وتحت عنوان (استطراد) حيث افتتاحية العدد، جاءَ ما يلي:

استطراد

منذ عدة شهورٍ، يسعى ابنُ الشهيد مدحت باشا (علي حيدر بك) الذي حُكم عليه بالنفي إلى إزمير ووُضعَ تحتَ الإقامة الجبريةِ فيها حيثُ عانى الكثيرَ من ظلم واستبداد السلطان العثماني، وبمساعدة دولٍ أخرى، تمكّنَ علي حيدر بك من الهروب والخروج من وطن السلطان إلى مصر حيثُ يعيشُ الآن ويعملُ دون هوادةٍ لخدمة وطنهِ، مطالباً السلطانَ عبد الحميد بدم أبيه الشهيد وتعويض عائلته المنكوبة. فقبْلَ عشرين عاماً، أقدمَ السلطانُ على نفي أبيه مع عددٍ من وزراءٍ آخرين إلى الطائف بولاية الحجاز ثمَ أرسلَ خلفهم عدداً من الجلادين خلسةً مهمتُهم قتلُ مدحت باشا، ذلك الرجل الشهم الغيور، إذ تمكّنَ رجالُ السلطان من خنقه في الفراش تحت جُنح الظلامِ وارتكابِ جريمة قتلٍ مخططةٍ بحق رجلٍ لم ينحنِ أمام مغرياتِ السلطان الذي بنى سعادتَه على شقاءِ وتعاسة شعبه.

اليوم، وليعرفَ الشعبُ أيَّ نوعٍ من البشر هو السلطان، يقومُ علي حيدر بك ابن ذلك الوزير بنشر وإعلان وقائع جريمة قتل أبيه بالتفصيل، ولكي يطّلعَ الكردُ أيضاً على تفاصيل هذه الجريمة الفجيعة، رأيتُ لزاماً عليَّ نشرَ ترجمة ذلك الكتاب في جريدتي، ومن الآن سوف أبدأ العمل، ومن الله التوفيق…

يعلمُ الجميعُ أنه قبل 25 عاماً كان السلطان عبد العزيز هو سلطانُ البلاد، ونظراً لأنه كان مُسرِفاً شديدَ التبذير وسفيهاً، غيرَ مبالٍ بحياة الشعب والرعية، اتفق وزراؤه مع شيخ إسلام ذلك الزمان على عزله من صدارة الحكم، فأصدرَ شيخُ الإسلام فتوىً يقضي بخلعه عن عرش السلطنة. كان عبد العزيز رجلاً مغروراً بعرشه وتاجه، حيث لم يكنْ يخطرُ له ببالٍ قطُّ أن يتجرأ أحدٌ على اتخاذ خطوةٍ من هذا القبيل، فعلى الرغم من أنّ بعضَ أصحابه ومحبيه المقربينَ الصادقينَ معه كانوا يُنقِلون إليه نوايا وزرائه القاضية بخلعهِ عن صدارة السلطنة، إلا أنه كان يستبعدُ حدوثَ أمرٍ من هذا القبيل، بل ولم يصدق الأمرَ إلا حينما أعادَ الصدرُ الأعظمُ محمد رشدي خاتمَ الصدارة. لكن، بعد فوات الأوان!

لشدّة إسراف السلطان عبد العزيز، كانتْ مجوهراتُ الخزينة في عهده تُباعُ علناً في الأسواق. وعدا عن سفاهتهِ وتخريبهِ المنظَّم للشعب وتبذير ممتلكاته، كان هناك أيضاً بعضُ وزرائه من أمثال محمود نديم ومحمود جلال الدين وغيرهما ممن كانوا يدوسون على الشعب لقاء تأمين مصالحهم ومنافعهم الشخصية لتزيدَ من تضييق الخناقِ على الشعب واقترابهِ من التهلكة، فلم يكن هناك حلٌّ سوى الإقدام على خلعه من السلطة…لكن ما يؤسَفُ له أن يرحلَ عبد العزيز ويحلَّ محله عبد الحميد!

عدا عن قيام السلطان عبد العزيز بسوءِ استعمال خزينة الدولة وهدر المالِ العام إضافةً إلى أفعاله السيئة الأخرى، كان يقومُ بإفساد أخلاقِ الشعبِ بحيثُ من الصعوبة أن يتمّ إصلاحُها بمائة أو مائتي سنةٍ قادمةٍ!

تولّدتْ مصيبةُ صعودِ عبد الحميد عرشَ السلطنة من مرضِ السلطان مراد. كان مراد سلطاناً عادلاً، وحينما اعتلى عرشَ السلطنة، طلبَ إلى جانبه عدداً من الرجال الأكفّاء الطيبين من أصحاب الأخلاقِ والضميرِ لتشكيل طاقمِ حكمهِ من أمثالِ ضياء باشا وكمال بك وغيرهما ممن يوثَق بهم، لكن لشديد الأسف وبعد جلوسه بـ(5-6) أيام فقط، وبسبب سوء معاملة سلفه معه وخوفه من الشعب تغيرتْ أحوالُه وساءتْ أوضاعُه النفسية كثيراً، وصل إلى درجةِ بقاءِ مدحت باشا إلى جانبه في القصر ثلاثة أيام بلياليها لتسليته ورعايته.

بعدَ صعودِه عرشَ السلطنة بـ (4-5) أيامٍ فقط، فجأةً ازدادتْ وتيرةُ المرض الذي أصابَ دماغَ السلطان، فعمدَ مدحت باشا ورشدي، وتحاشياً لأية مظاهرَ قد تسيءُ إلى السلطنة إلى إخفاءِ حالةِ السلطان عن الناس وقاما بتداويهِ على يد الطبيب ل.ديسترويف.ج وفريقِه الطبيِّ حيث كان يقومُ مدحت باشا كلَّ يومٍ باصطحابه إلى شاطئ البحر للتنزّه بغيةَ التخفيفِ عنه وفقاً لقرار الطبيب المعالج.

لم يكن السلطانُ مراد مجنوناً بالكامل، لكن من شدّة دهشته كانت الدماء تتدفق بشدةٍ وتهاجمُ دماغه بغزارة وتسببُ له آلاماً مبرحة وخللاً في العقل، لذا كان الطبيبُ يقول إذا ما تمّت مداواتُه بالتنزّهِ لعدة شهورٍ، فإنه سوف يتعافى تماماً ويعودُ إلى وضعه الطبيعي، وحقيقة الأمر كانت كذلك.

عندما سافرَ السلطانُ مراد مرةً مع أخيه السلطان عبد العزيز إلى أوربا حيث استقبلهم نابليون ملكُ فرنسا الذي أبدى شديدَ إعجابه بعقل وذكاء السلطان مراد، ولأنه كان ولياً للعهد، فتركت مقولة نابليون أثراً في غاية السوء وزرعت حقداً اسوداً في نفس عبد العزيز، وغزت الغيرة قلبَه وباتَ يكرهُ أخاهُ وينظرُ إليه بازدراءٍ واستخفافٍ ويتحدثُ إليه بنبرةٍ غاضبة على الدوام، تركتْ هذه المعاملة السيئة من أخيه السلطان أثراً سلبياً على نفسيته التي تعرضتْ للضغط والتحقير المستمرين.

حينما كان مدحت باشا ومحمد رشدي منهمكَيْن بمداواة واستطباب السلطان مراد، علِمَ عبدالحميدُ بالأمر، ونظراً لكونه صاحبَ الدور في السلطنة تلك التي كان مهووساً بها، بدأ عبد الحميد وعلى الفور بالفساد وكيد مختلف الدسائس لصعود كرسي السلطنة، ومنذ ذلك اليوم، بدأت الفتنة ومحنة الشعب تظهر للوجود. فمنذُ صِغرهِ كان عبد الحميد يقومُ بنقل المعلومات بين السراي وبين إخوته ويتجسسُ عليهم، فعندما كان يقومُ مدحت باشا بإجراءاتِ عزل السلطان مراد (بل السلطان عبد العزيز-المترجم) كان يقوم بنقل الأخبار إلى السلطان عبد العزيز. عدا عن هذا وذاك، ونظراً لاستقلالية قرارِ مدحت باشا ورشدي باشا، كان عبد الحميد يكرهُهُما كرهاً شديداً.

لدى سماع عبد الحميد خبرَ مرضِ أخيه، قامَ باستدعاءِ محمود ورديف باشا، ولأنه كان يعرف بأنهما شخصان دنيئا النفس وأنانيان همُّهما الأولُ هو البحثُ عن مصالحهما ومنافعهما الشخصية، طلبَ منهما المساعدة في استلام السلطة لقاءَ تنصيب أحدهما منصب الصدر الأعظم للسلطنة والآخر مستشاراً في المركز إذا تمَّ التوفيق في استلام السلطنة، ودون خجلٍ أو حياءٍ، وافقا على الصفقة.

*********

وفي العدد 23 الصادر في 23 شوال 1317 هجري الموافق 23 شباط 1900م تابعَ الأمير عبد الرحمن بدرخان وقائعَ اغتيال الصدر الأعظم حيث جاء في افتتاحية العدد:

واقعة مدحت باشا

تتمة 

كان محمود باشا ورديف باشا يعلمان جيداً بأن أمر إجلاس السلطان عبد الحميد سوف يستغرق وقتاً وهو ليس بالأمر اليسير، لذا بدايةً وقبل كل شيءٍ أعلنا «جنون» السلطان مراد على الملأ، ومن باب التحريض أيضاً قالا بأن الحكومة باتتْ في أيدي مدحت باشا ورشدي باشا! وقد أيدت الظروفُ الصحية التي كان يمرُّ بها السلطان مراد هذه الإشاعاتِ التي انتشرت بسرعة، لأنه لم يكن يستطيع إقامة صلاة الجمعة في المسجد ولم يظهر أمام الناس لتفنيد تلك المزاعم، فحدث لغطٌ بين الناس حول جنون السلطان من عافيته! وبدأوا يشتكون متذمرين من الوضع قائلين: «إذا نحن بدون سلطان أعلمونا، وإذا مصيرنا باتت بيدي مدحت ورشدي باشا، أعلمونا أيضاً كي نعرف كيف نتصرف»!

لكن، لاحظَ عبد الحميد أن شكوى الناس هذه قد خفت وتلاشت في زمنٍ قصيرٍ دون جدوى، فسارعَ إلى إجراء لقاءٍ مع السفير الروسي آغناتيف وشرح له الوضعَ الصحيَّ لأخيه السلطان مراد بدقة، حيث وجد السفير الروسي فرصىةً ذهبية لفرض مصالح دولته على السلطنة، وتحدثَ عن الظلم الذي يجري في بلغاريا، وبدأ الحرب. اتصل آغناتيف مع سفراء الدول الأخرى ومنهم السفير الإنكليزي سير هانري ليارد الذي كان يدركُ النوايا الروسية ومغزى تحرك سفيرها على هذا الخط، فلم يُعرْ طلبه أيّ اهتمام.

بعد المشاورات مع السفراء، عادَ آغناتيف مرةً أخرى لاستشارة السلطان عبد الحميد لوضع الخطط اللازمة، متحركاً بعدها حسب التعليمات التي استقاها من السلطان، فذهبَ إلى الباب العالي طالباً تسليم أوراق اعتماده إلى السلطان رسمياً، حيث أبدى رغبته بلقاء السلطان لمناقشة المظالم التي تُرتكب في بلغاريا! وبغية المزيد من الإحراج لمدحت باشا ورشدي باشا وفريقهم الطبي المعالج، ولأن السلطان عبد الحميد كان يعلمُ جيداً أن السلطانَ مراد لا يستطيعُ استقبالَ السفراء، أشارَ عبد الحميد إلى السفير آغناتيف اللجوء إلى هذا الأمر. عدا عن السفير الإنكليزي سير هانري ليارد، اتفق جميعُ السفراء مع خطة عمل آغناتيف، هذه الخطة التي وضعت مدحت باشا ورشدي باشا في حيرةٍ من أمرهما. وبعد أيام قليلةٍ، فوجئ مدحت باشا بزيارة محمود ورديف إليه، وعرضا عليه الأمرَ بوضوح وشفافيةٍ على الشكل التالي: «أنتم مَن عرّفتمونا على مسألة الخلع، واليوم كل السفراء باتوا يعلمون أن سلطان بلادنا مجنونٌ، وأنتم تعلمون أن سلطة شخصٍ مجنونٍ غيرُ جائزة لا عقلاً ولا شرعاً. وإنْ كنتم لا تريدون مساعدتنا في تنصيب عبد الحميد سلطاناً، فإننا سوف نطلبُ مساعدة سفراء العالم في ذلك وسنلجأ أليهم.»

أدهشَ حديثُ الرجلين مدحت باشا، فقرر الذهاب إلى السلطان عبد الحميد في ذلك اليوم على الفور واجتمع معه في مزرعته بـ(موسلو).

دخلَ عليه كلٌ من مدحت باشا ورشدي باشا في مزرعته، وعرضا عليه تفاصيلَ مرض أخيه السلطان الآيل للشفاء، وقد رجاهُ مدحت باشا أن يصعدَ عرشَ السلطنة وكالةً ريثما يتعافى السلطان مراد من مرضه، إلا أنّ السلطان عبد الحميد قد رفضَ المقترحَ بشدةٍ. عرض مدحت باشا مقترحاً آخر وهو الموافقة على الاستلام أصالةً ولكن بشروطٍ محددة وموثقة، وهي: عنما يتعافى السلطانُ من مرضه يتخلى عبد الحميد عن السطنة وتُعادُ إليه، وأن يقبلَ بالقانون الأساسي المعمول به حالياً دون تغيير، وألا يخرجَ عن رأي الوكلاء والمستشارين في اتخاذ القرارات، وأن يقبلَ بـ ضياء باشا وكمال بك كمستشاريْن يعملان في القصر.

لم يسفرْ عبد الحميد عن حقيقة أفكاره ونواياه المخبأة داخله، فوافقَ على تلك الشروط، وبناءً على طلب مدحت باشا، وقّعَ عبد الحميد على سندٍ سلطاني رسمي يقضي بقبوله تلك الشروط. بهذه الصورة، تمَّ خلعُ السلطان مراد الخامس وبيعة عبد الحميد بدلاً عنه.

بعد جلوسه على عرش السلطنة، سادَ جوٌّ من الحزن والكآبة عموم الشعب كما تشاءمَ الوكلاءُ من مستقبل الوطن والبلاد. بعد البيعة، انتظرَ ضياء باشا وكمال بك قرار السلطان بدعوتهما إلى القصر لممارسة عملهما الاستشاري وفق السند الذي وقّعه وسلمه لمدحت باشا وأقسمَ على الالتزام بكامل الشروط، لكن، بعد إجراء عملية البيعة حيث وجد عبد الحميد نفسه سلطاناً لم يُعِرْ وعوده وعهوده أي اهتمامٍ وتنصّلَ منها جميعاً، فلم يطلبْ ضياء باشا وكمال بك إلى القصر للعمل كمستشارين، بل طلبَ بدلاً عنهما سعيد باشا ووضعه في ذلك الموقع.

هذه المعاملة السيئة ونكثُ العهد الصادر عن عبد الحميد تركَ دهشةً كبيرة لدى مدحت باشا ورشدي باشا بل ولدى عموم الناس، لأنه أثبتَ منذ اليوم الأول لحُكمه أنه خائنٌ للعَهد والقَسَم الذي أقسمه أمام مدحت باشا وتنصّله من المشروطية التي وقّعَ عليها. بعد عدةِ أيامٍ، اجتمع كلُ الوكلاء في منزل محمود باشا، وتبيّن لمدحت باشا أن عبدالحميدَ قد تمكن من إفسادهم وشراء ضمائرهم، لذلك قرروا إلغاء المشروطية في الإدارة قائلين إن بعضَ الإصلاحات كفيلةٌ بإسكات السفراء على حدِّ زعمهم! عندما رأى مدحت باشا كلَّ هؤلاء الوزراء اللاهثين خلف منافعهم ومصالحهم الذاتية يقومون بتنفيذ أوامر السلطان برفض المشروطية في الحكم، غضبَ غضباً شديداً، وأثبتَ للحضور في مداخلته أن أية تعديلاتٍ أو تنظيمٍ يوصون بها، هي زائلة في ظلِّ استبداد عبد الحميد، لذا، طلب استقالته وخرجَ من المجلس غاضباً يائساً.

حينما دخلَ مدحت باشا إلى السلطان لتقديم استقالته، ولأنَّ السلطانَ كان على درايةٍ بمجريات الاجتماع، فاجأهُ السلطانُ بطلب نسخٍ من القانون الأساسي لإعلانه، عندها، تأملَ مدحت باشا خيراً، لكن في حقيقة الأمر أن السلطان كان يخشى غضبَ الشعب وعصيانه فأعلنَ القانون الأساسي. وبإعلانه، استبشر السفراء خيراً إلا أن السفير آغناتيف ولمصلحة بلاده ولمصلحة إدارة السلطنة، طلبَ نفيَ وإعدامَ مدحت باشا! لأنه كان يعلمُ بأنّ مدحت باشا هو مَن يقومُ بإبطال مفاعيل فساده وألاعيبه بحق السلطنة وشعبها.

في بداية حكمه، ولأنه لم يكن قد أخضعَ كلَّ الوزراء لسيطرته، وبسبب الأقاويل التي كان الشعبُ يتداولُها والتي أصبحت موضعَ جدلٍ، حيث كانوا يقولون ممتعضين أن عبد الحميد قد أُجلِسَ على العرش بهمةِ وقوةِ آغناتيف، وكان عبد الحميد على درايةٍ بهذه الشائعات، فيخشى غلياناً شعبياً تطيحُ به وبعرشه.

لكن، حينما تمَّ إعلانُ القانون الأساسي من قبل السلطان عبد الحميد، عمّت الفرحة عمومَ البلاد، لأن الشعبَ كان يعلمُ بأن أرواحَ أبنائه وممتلكاتهم ستبقى آمنةً محفوظة بقوة هذا القانون. أما حكومة روسيا، على العكس من مصالح الشعب فكانت قلقةً ومتكدرة من وجود المشروطية في إدارتنا (أي السلطنة)، لأنها كانت تعلمُ أن دولتنا تكتسبُ القوة والمنَعة بالمشروطية، لذلك قامتْ بتوجيه إنذارٍ شديد اللهجة لحكومتنا لأجل إلغاء المشروطية. حظيت مطالباتُ روسيا في المجلس العمومي الذي كان يترأسه مدحت باشا بالرفض، وبغية الإساءة إليه، أعلن عبد الحميد أنّ مدحت باشا يدعو إلى حربٍ مع روسيا، ولأنه كان يدري أن غائلة الحرب تكفي لإشغال الشعب، ومن خلالها، سعى إلى تعطيل المجلس بناءً على رغبة آغناتيف. تعطيلُ المجلس يستدعي أولاً وقبل كل شيءٍ نفيَ مدحت باشا خارج البلاد. وقد ساعدَ كلٌ من محمود ورديف وسعيد باشا في تحقيق هذا الهدف جرياً وراء مصالحهم ومنافعهم الشخصية، حيث كانوا لا يرغبون بوجودِ مدحت باشا، لذا عمدوا بكل ما أوتوا من قوة على تزوير الحقائق وخلق الأكاذيب لتمرير مخططاتهم ومنها استغلال موضوع القوائم.

*********

وفي العدد 24 الصادر في 6 جمادى الأولى 1318 هجري الموافق      27آب 1900م، تابعت صحيفة كردستان ملف مدحت باشا وجاء في افتتاحية العدد:

واقعة مدحت باشا

تتمة

رفضَ عبد الحميدُ استلامَ مخصصاتِه الماليةِ عن طريق جداولَ نظاميةٍ، مما أثارَ حفيظة الوزير مدحت باشا الذي كان يقول: إذا لم يولِ السلطانُ الاعتبارَ للجداول فإنّ ذلك يُعَدُّ أمراً في غاية السوء والخطورة، لذا وحفاظاً على المال العام كان يصرُّ على ضرورة استلامِه مخصصاته وفق الجداول النظامية، في حين كان اللصُ ناظر المالية غالب باشا يتجاوزُ تعليماتِ مدحت باشا ويقومُ بإرسال مخصصاتِ السلطان إليه دون جداول وبالذهب. سمعَ مدحت باشا بهذا التجاوز من جانب ناظر المالية فذهبَ إلى المركز وقابلَ السلطان مطالباً بعزلِ غالب باشا وإعادة المخصصاتِ المرسلة إليه بصورةٍ غير قانونية إلى الخزينة العامة، إلا أن طلبَ مدحت باشا هذا قوبلَ بالرفض القاطع من جانب السلطان! غادرَ الصدرُ الأعظم المركز قاصداً بيته مستقيلاً حيث مكث فيه أسبوعاً دون أن يخرجَ، وفي تلك الفترة أرسل إليه السلطانُ مراتٍ عديدة أمرَ الالتحاق بعمله، إلا أنّ مدحت باشا كان يرفض أمره بشكلٍ قاطعٍ.

وبعد يومين، أعلمَهُ السلطانُ أنه وافقَ على مطالبه، وليذهبْ إلى المركز لمتابعة أعماله، فصدقَ مدحت باشا الخبرَ وذهبَ إلى المركز ليجدَ نفسه قد وقعَ في شِركٍ نصبه له السلطانُ، فعندما دخل عليه أحد الحراس في المركز يطلب منه تسليمَ خاتم الصدارة! حينئذٍ علمَ بأن هناك خَطباً مدبراً. وبعد ساعتين، تمَّ نقلُه إلى المرفأ وتسفيرُه من استانبول على متن باخرةٍ.

كان السلطانُ يخشى نفيَ مدحت باشا لِما كان يتمتعُ بها من شعبية ومكانةٍ واحترامٍ لدى الجميع، لذا، قامَ بتنفيذ فِعلتهِ هذه بمزيدٍ من العناية وفي ظروف السرية التامة، لكن عندما وجدَ السلطانُ أن الشعبَ صامتٌ وغافلُ عن دسائسه، شعرَ بالسعادة وأمرَ بنفي مدحت باشا إلى بريطانيا.

في منفاهُ بأوربا أيضاً، كان مدحت باشا يحظى باحترام الناس مما كان يزيدُ من مخاوف السلطان وحنقه عليه. وبغية كسبِ رضاه وشراءِ سكوته، أرسلَ إليه السلطانُ مبلغاً من المال إلا أنه رفضَ استلامَه محافظاً على أنفته وعزة نفسه، وقد زادتْ مثلُ هذه المواقفِ من سُخط السلطان وغضبه عليه حتى أنه لم يتمالكْ نفسَه من سلوك مدحت باشا فقام بطلبه مجدداً، وبعد استجابة مدحت باشا للقائه، قام السلطانُ بإرساله إلى جزيرة كريت اليونانية. هناك أيضاً، عملَ مدحت باشا لأجل سعادة شعبه وبلاده بإخلاصٍ وتفانٍ، فحازَ على احترام ومحبة الناسِ هناك مسلمين ومسيحيين، وكسبَ الكثيرَ من الأصدقاء.

بعدَ شهرين، استلمَ مدحت باشا برقيةً من السلطان يُعلمُه فيها بأنه تمَّ تعيينُه صدراً أعظم للسلطنة، لكن بعد ساعتين، استلمَ برقية أخرى يُعلمُه فيها بأنه تمَّ تعيينُه والياً للشام، فسافرَ مدحت باشا إلى الشام لاستلام مهمته الجديدة هناك.

*********

وفي العدد 25 الصادر في 6 جمادى الآخرة 1318 هجري الموافق تشرين الأول 1900م حيث الحلقة الأخيرة من الملف، جاءت الافتتاحية كما يلي:

واقعة مدحت باشا

تتمة

بفضلِ غيرتهِ وطيبتهِ، تمكّنَ مدحت باشا من كسبِ ودِّ الناس واحترامهم في الشام أيضاً مما زاد من قلق السلطان وارتيابه، وأملاً بالخلاصِ من هذا الكابوس الذي يقضُّ مضجعَه، وعن طريق عملائه، قام السلطان بتسميمه مرتين، لكن مدحت باشا قد نجا منهما. لم يعدِ السلطانُ يحتملُ وجودَه في الشام، فأمرَ بتعيينه في إزمير. بعد انتقاله لمكان عمله الجديد في إزمير عدة شهورٍ وبهدف التخلّصِ منه نهائياً، أرسلَ السلطان حلمي باشا مع عددٍ من الجنود والحراس إلى إزمير لتصفيته جسدياً وقتلِ زوجته وأولاده!

في المحصلة، في الساعة السادسة من مساء أحد الأيام قامَ حلمي باشا مع عساكره بتطويقِ دارهِ، لكنّ تمكّنَ مدحت باشا من الهرب عبرَ مخرجٍ خلفَ الدار ملتجئاً إلى القنصلية الفرنسية. حينما علمَ حلمي باشا بأنه ليس في الدار، أمرَ العسكرَ باقتحامِ المنزل شاهراً سيفَهُ في وجهِ زوجةِ مدحت باشا التي لم تخشَ سيفَه بل قامت بتوبيخه وتحقيره بكلامٍ جارحٍ، وبقي المنزل مسرحاً للحركة طيلة الليل كيوم القيامة.

عندما علمتِ الحكومة أنّ مدحت باشا قد التجأ إلى قنصلية فرنسا، رجتْ من السفارة تسليمَ مدحت باشا، وبعد إعطاء السلطان وعوداً طيبةً للسفارة، تمّ تسليمُ مدحت باشا لحكومة السلطان عبد الحميد. تمَّ احتجازُ مدحت باشا عدة أيامٍ في المخفر قبل إرساله مخفوراً إلى استانبول حيثُ دبّرَ لهُ السلطانُ مكيدة جديدة وهي اتهامُه بقتل السلطان عبد العزيز! فقام بتشكيل محكمةٍ صوريةٍ مزيفةٍ وأجرتْ محاكمتَه بعد تقديم شاهدَي زورٍ قبض كلٌّ منها من زبانية السلطان مبلغاً كبيراً من المال 10 آلاف ليرة ذهبية للإدلاء بشهادة كاذبة في المحكمة، وطمعاً بالمال، أقسما زوراً وكذباً أمام المحكمة بقولِ الحق! وبهذه الصورة، حكمت محكمة عبد الحميد المشكّلة من عددٍ من جواسيسه وأرذاله الكاذبين بالإعدام على مدحت باشا! وبعد إصدار الحكم بفترةٍ وجيزة أرسل السلطانُ خبراً إلى مدحت باشا يعلمُه فيه بأنه سوف يعفو عنه ويعيدُ تعيينَه صدراً أعظمَ للسلطنة فيما إذا قام بتقبيل يد السلطان وطلبَ العفوَ منه! إلا أنّ مدحت باشا لم يتنازلْ لتقبيل يدي سلطان دنيْ النفس، ورفضَ عرضَهُ مفضلاً الموت بشرفٍ عن الإذلال، لكن السلطان لم يتجرّأ على تنفيذ حكم الإعدام به في استانبول خائفاً من اضطراباتٍ قد تحدثُ بين صفوف الشعب وتؤثر على أركان حكمه، فقام بنفيهِ إلى الطائف بولاية الحجاز، وبقي مسجوناً فيها مدة سنةٍ كاملةٍ.

في تلك الفترة، كان هناك رئيس عشيرةٍ عربية اسمُهُ ابنُ الرشيد حيث كان من أصدقاء مدحت باشا منذُ أيامِ الشباب، ووفاءً لصديقهِ الطيب المسجون ظلماً، قام في أحد الأيام برفقةِ عددٍ من رجاله المسلحين باقتحام سجن القلعة التي كان مدحت باشا نزيلَه لتحرير صديقه من سجن القلعة، لكنه فوجئ بوجود عددٍ كبير من الجنودِ تفوق عددَ رجاله أعداداً مضاعفة، إلا أنه لمحَ مدحت باشا من نافذة السجن، فدعاهُ ابنُ الرشيد لإلقاءِ نفسه من النافذة لخلاصه، لكنه ولكونه كان يائساً من الحياة ولم تطاوعْه عزةُ نفسه،  فلم ينفذْ طلبَ صديقه المُنجِدِ وبقي في زنزانته!

بثّتْ هذهِ الحركةُ الصادرةُ عن ابن الرشيد لتحرير مدحت باشا من السجن الرعبَ في أوصالِ السلطان، فبادرَ على الفور لعزلِ والي الحجاز صفوت باشا وتعيين عثمان باشا بدلاً عنه، وأمرَ الواليَ الجديدَ أمراً قطعياً بتصفية مدحت باشا جسدياً بأقصرِ وقتٍ ممكنٍ. وبأمر السلطان آنفِ الذكرِ ومساعدةِ قتَلةٍ مجرمين أرسلَهم السلطانُ من استانبول خصيصاً لهذه المهمة، أقدمَ الوالي عثمان باشا على قتل مدحت باشا في فراشه خنقاً!

خلاصةُ الأمر، بهذهِ الصورةِ المفجعة قتلَ عبد الحميدُ رجلاً نبيلاً خدمَ وطنه بتفانٍ وإخلاصٍ مما يجعلُ المرءَ في حيرةٍ من أمره، كيف يتنازلُ سلطانٌ إلى هذا الدرك الأسفل من الأخلاق!

رحمَ اللهُ ذلك الباشا، وندعو الله أن ينتقمَ من السلطان ويجازيه على جريمتهِ المشينة ويزيلَهُ بأقصى سرعةٍ عن صدر هذه الأمة وهذا الوطن كي يتخلّصَ كلُّ المسلمينَ من شرورهِ وآثامهِ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى