الافتتاحية
مجلة الحوار- العدد /79/- السنة 29- 2022م
إثرَ تحشداتٍ عسكريةٍ مكثفةٍ على مدى شهورٍ، تحضيراً لغزوٍ روسيٍّ مخططٍ على أوكرانيا الموالية للغرب، أوكرانيا التي يسكنُ جزءَها الشرقي مواطنون من أصولٍ روسية موالين للاتحاد الروسي، والتي أقدمتْ روسيا على اقتطاع شبهَ جزيرة القرم منها في مارس 2014 وضمّها لأراضيها بموجبٍ استفتاءٍ شعبي لم يحظَ باعترافِ جمهورية أوكرانيا والدول الغربية التي وصفتْه بالاستفتاء غير الشرعي. ووسطَ توتر وتلبُّدِ الأجواءِ بين الرأسمال الصناعي في كلٍّ من روسيا والدول الغربية، وفُقدان هيئة الأمم المتحدة لدورها الريادي في تطبيق القانون الدولي نتيجةً لتصاعد حدة الصراع الدائر بين قواها الكبرى على مناطق النفوذ ومصادر الطاقة، شنّت القوات الروسية بتاريخ 24 شباط 2022 هجوماً عسكرياً برياً وبحرياً وجوياً شاملاً وظالماً على أوكرانيا بهدف تغيير النظام القائم فيها برئاسة فلادومير زيلينسكي الموالي للغرب وإقامة نظامٍ سياسي جديدٍ موالٍ لموسكو، كما فعلتْ سابقاً مع جورجيا تحت يافطة «حماية الأمن القومي الروسي»، وتحييد أوكرانيا سياسياً، بذريعةٍ مبتكرةٍ أخرى هي أن النظام القائمَ فيها هو نظام (نازيين جدد) يتلقى تعليماته وأوامرَه من الغرب! وذلك بعيداً عن مبدأ سيادة الدول المصانة بموجب القانون الدولي وضربهِ عرض الحائط.
إن الحربَ الروسية على أكرانيا وتداعياتها على المجتمع الدولي لهوَ مؤشرٌ على بداية انهيار منظمة هيئة الأمم المتحدة التي كانت تنظّمُ العلاقات بين دول العالم وفق القانون الدولي المتفق عليه وحسب مواثيقها، تقفُ اليومَ عاجزةً عن اتخاذ أيّ قرارٍ، كما أنها تمهّدُ الطريقَ أمام تنامي وصعود العنف والقوة الغاشمة لتفعلَ فعلَها خارج سياق المحاسبة والمحاكمة، وتُفشي حالة انعدام الاستقرار والفوضى في العلاقات الدولية.
ورُبّما تفتحُ ظاهرةُ اجتياح مدرعات الدول القوية وجيوشُها لحدود الدول الضعيفة دونَ وجودِ قرارٍ دولي كما فعلتْ تركيا في الشمال السوري، وتفعلُ روسيا اليومَ في أوكرانيا الطريقَ أمامَ بعض الدول الطامعة الأخرى للبحث في أوراقها التاريخية وسجلاتها القديمة، لتبريرِ غزوِها لبلدانٍ كانت في غابر الأزمانِ من مستعمراتِها أو محمياتها أو ما شابهَ ذلك!
إن الحروبَ التي نشهدُها اليوم، هي مخاضُ إعادة تشكّل نظامٍ عالمي جديدٍ بقطبين أو أكثر، وهي إحدى نتاجاتِ دورة رأس المال العالمي الذي يسعى للسيطرةِ على مناطق النفوذ ومصادر الطاقة والمياه والثروات الباطنية. دون الاكتراثِ لهدر الأرواح البشرية أو تلويثَ المناخ الذي يزدادُ تلوثاً وجفافاً وينذرُ بكوارثَ طبيعية تهدّدُ الحياة على أجزاءٍ كبيرة من الكرة الأرضية، ناهيكَ عن مخاطر استخدام السلاح النووي الفتّاك الذي يبقى احتمالُ استخدامه قائماً ولو كان بنسبةٍ ضئيلة، بعيداً عن مصالح شعوب العالم التي تكمنُ في السلام والتعايش والعدالة.
في هذه المرحلةِ الحرجة والعصيبة من عمر البشرية يُطلبُ من العقلاء والنخب، خاصة أصحاب القلم المدافعين عن القيم الإنسانية في كلّ دول العالم بما فيها روسيا وأمريكا والاتحاد الأوربي التنديد بهذه الحرب المدمّرة وكافة الحروبِ المندلعة في بلدان الشرق الأوسط ومنها بلدُنا سوريا المثقَلة بالآلام، هذه الحروب التي تنذرُ جميعها بكوارث للإنسانية جمعاء. فالمطلوب الدعوة لوقفِها فوراً، والمطالبة بإجراء حوارٍ مباشرٍ بين الأطراف المتنازعة بإشرافٍ دولي، لأنّه لا بديل عن لغة الحوار التي تبقى هي اللغةُ الوحيدة المناسبةُ لحلّ قضايا الخلاف سياسياً، وتجنب اللجوء إلى العنف والحروب وإراقة الدماء، كما يُطلبُ التعاونُ والعمل المشترك لإعادة صياغة منهاج هيئة الأمم المتحدة على أسسٍ من العدل، كونُها لم تعدْ تنسجمُ مع العصر، وتغييرها بما يتوافقُ مع مبادئ الحرية والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتدميرُ أسلحة الدمار الشامل التي تشكلُ خطراً على السلم العالمي، وتخصيصِ المفاعلاتِ النووية لتوليد لطاقة والاستخدام في مجال الأعمال السلمية حصراً، والكفّ عن العبث بحياة الإنسان!.
ونحن كأسرة تحرير مجلة الحوار، مازلنا ندعو اليوم كما في الأمس الى رفع راية الحوار بدلاً عن إشهار أسلحة الحرب، فقد عملنا للحوار منذ سنوات طويلة، وسنظل مستمرين في مسيرة التأسيس لثقافة الحوار ونبذ العنف والعمل على وقف الحروب بكافة أشكالها، وبصرف النظر عن مبرراتها.
في هذا العدد نتابع نشر آراء وأبحاث تأتي جميعا في هذا السياق لخدمة مسيرة السلم والحوار، فهذا النهج الذي إلتزم به المرحوم إسماعيل عمر والعديد من أصدقائه ورفاقه، مازال هو الراجح والمعتمد لدينا. لذلك وفي الصفحات الأولى من هذا العدد نعيد نشر جانب من أفكار ومواقف الراحل إسماعيل عمر (أبو شيار).
ولنا أمل كبير بأن حلقة الداعين لثقافة الحوار ستتسع عاما بعد آخر، وعدداً بعد آخر من مجلتنا.