منح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقريره عن التنمية البشرية لعام ١٩٩٤ أهمية بالغة لمفهوم الأمن البشري، وعدّ أمن الأفراد أولوية في قضايا التنمية البشرية. بحيث بات المفهوم يشمل اليوم طيفاً واسعاً من الاستحقاقات الحقوقية، مثل حق التحرر من الخوف، أي حماية الأفراد من الصراعات العنيفة، بما فيها الصراعات الاقتصادية التي تقود إلى الفاقة والجوع. علاوة على الأمن السياسي، الذي يضمن احتراماً لحقوق الإنسان الأساسية، مثل عدم التعرض للقمع السياسي والتعذيب الممنهج وسوء المعاملة أو الاختفاء أو قمع الحريّات. إضافة لما سبق هناك العديد من المجالات الحيوية والتقليدية التي يشملها مفهوم الأمن الإنساني، مثل الأمن الغذائي والصحي، الأمن البدني والشخصي، أمن الأفراد والمجتمع ضد التهديد وحروب الإبادة والعنف الديني والعرقي، الذي تواجهه الأقليات والجماعات التي تحت التهديد.
تشترط علاقة الأمن الإنساني بمنظومة حقوق الإنسان إطار مؤسساتي يعكس علاقة المواطن بسلطة شرعية عليا، هي الدولة. وفي هذا السياق يُعزى انضمام الفرد إلى الجماعة ثم الدولة، وتنازله عن جزء من حريته لقاء ضمان أمنه الشخصي من قبل الدولة، بموجب عقد اجتماعي افترضه فلاسفة القرن الثامن عشر، لتبرير نشوء سلطة عليا.
لكن في ظل غياب سلطة الدولة ودورها التقليدي في حماية الأفراد والجماعات، كما هو الحال في ظروف النزاعات أو الحرب الأهلية كسورية، مع وجود دولة احتلال، كتركيا، تعتمد في احتلالها على قوى مليشياوية جهادية في عقيدتها السياسية. فإن تلك العلاقة تكتسب طابعاً مأساوياً للغاية. نظراً لغياب السلطة الشرعية، وغياب سلطة القانون والحق، وبالمقابل هيمنة سلطة العسف والعنف.
يكتسب مفهوم الأمن الإنساني هنا بعداً مأساوياً مشخّصاً، يتعلق بحالة فريدة حيث يوجد أفراد مدنيون يخضعون قسراً لسلطة مليشيات جهادية، تمارس القتل والسلب والاعتداء، وتمارس الاختطاف دون أيّ رادع قانوني أو أخلاقي، فقط لدواع عرقية أو دينية أو مذهبية وحتى جنسية، أو دوافع تتعلق بالحصول على المال والابتزاز.
ما ينبغي التركيز عليه في هذا السياق، هو أمن فرد ومجتمع، يخضعان لسلطة مركبة، ترعاها دولة محتلة، هي عضو في الناتو، تستخدم أسلحة الناتو ضد مدنيين عزل، وتقوم بتنفيذ سياسات ترقى إلى جرائم حرب، بوساطة جماعات جهادية مسلحة، تحارب وتمارس القتل لأهداف عقائدية (دينية وعرقية).
إنه وضع جيوسياسي وإنساني فريد، يتسم بالخلل وعدم التوازن لصالح الفوضى العارمة، إنها حالة أشبه ما تكون بالحالة الذئبية التي تحدث عنها الفيلسوف الإنكليزي (توماس هوبز)، حيث لا أحد يشعر بالأمن، لا أحد يعمل، لا أحد يملك، لا أحد يثق بالآخر، الكلّ عدوّ الكلّ، لا أحد يستطيع أن يضمن حياته للحظة واحدة. لكن بالمقابل كلّ يستطيع أن يفعل ما يريد طالما يملك السلاح ويمارس الإرهاب قدر المستطاع. إنها حالة الاستباحة والرعب المطلقين.
المنطقة الآمنة، التي زعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إقامتها وتذرع بها لتبرير حروبه في شمال سوريا ومناطق الإدارة الذاتية، هي مناطق كوارث أمنية، حيث ينتفي فيها الأمان ويسود الخوف والذعر والترويع الممنهج بحق المدنيين. إنها بالضبط تشبه الحالة الطبيعية قبل المدنية، التي وصفها هوبز بالحالة الذئبية. وهذه الحالة ليست مفترضة أو متخيلة تماماً في الحالة السورية/ الكردية (في عفرين ورأس العين) كما اعتقد الفيلسوف الإنكليزي في الأصل. ولم يكن يخطر بباله أنها ستتجسد يوماً في بقعة ما من الأرض وتصبح نصف تجريبية. إذ ثمة أدلة وقرائن مادية على واقعيتها، حيث تمثلت إحدى مفارقات المأساة الكردية هنا في وجود مليشيا (الذئاب الرمادية) المسلحة في طليعة القوات التركية في المناطق المحتلة، وهي منظمة تركية يمينية متطرفة، تنتمي إلى جماعات الفاشية الجديدة المتعصبة قومياً، وهي مصنفة كمنظمة إرهابية دوليًا، تشكلت في أواخر 1960. وتؤمن هذه المليشيا بالتفوق العرقي للأتراك، وتسعى لاستعادة أمجادهم وتاريخهم وتوحيد الشعوب التركية في دولة واحدة. بالإضافة إلى معاداتها للقوميات الأخرى كالكرد واليونان والأرمن. وتمارس تلك المليشيا، إلى جانب الميليشيات الإسلامية الأخرى، حسب العديد من التقارير (منها رصدها المركز الأوروبي لحقوق الإنسان) عمليات قتل وترويع للسكان الأصليين تقسرهم على الرحيل وترك بيوتهم.
وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان المعارض في عام 2019 انتهاكات تلك المنظمة في مدينة عفرين، منذ بدء الغزو حين ظهر أعضاء تلك المنظمة بجانب متطرفين آخرين وهم يقومون بتشويه وإهانة جسد إحدى المقاتلات الكرديات بعد مقتلها عام 2018. الانتهاكات شملت كذلك عمليات اختطاف لطلب الفدية مقابل إطلاق سراح المختطفين ونهب لمنازل السكان وفرض الإتاوات وقطع أشجار الزيتون، وكل ذلك تحت سمع وبصر قوات الجيش التركي التي رفضت حتى كتابة تقارير أو شكاوى بحق هؤلاء لتوثيق ما يرتكبونه ضد السكان.
منطقة عفرين (كرداغ) الكردية، في أقصى شمال غرب سوريا، ذي الغالبية الساحقة من القومية الكردية ٩٧٪ من مجموع السكان البالغ عددهم ٥٥٠ ألفاً بحسب الإحصائيات الرسمية عام ٢٠١٢. كانت من أكثر المناطق السورية أمناً واستقراراً وتطوراً، خلال سنوات الحرب الأهلية. لجأ إليها مئات ألوف آخرين من السوريين النازحين من جحيم النزاع. حيث كانت تشهد تطوراً طبيعياً بعيدة عن شرور الحرب نسبياً بوجود حكومة وإدارة محلية وقوات محلية لحفظ الأمن والاستقرار، إذ واجهت المنطقة خلال أعوام (٢٠١٢/ ٢٠١٧) أكثر من (٥٠) هجوماً عدائياً شنته الميليشيات المرتبطة بـ (الجيش السوري الحرّ) و(داعش) و (جبهة النصرة) وقتئذ.
في ٢٠ كانون الثاني/ يناير ٢٠١٨ انقضّ الجيش التركي بترسانته الحربية المتطورة، يتقدمه ٢٠ ألف عنصر من الميليشيات المعارضة السورية، ذي العقائد الجهادية في معظمهم، على المقاطعة. حوّل مدنها وقراها خلال أسابيع إلى أنقاض محروقة. كان ثمة جذر مشترك بين هؤلاء المتطرفين والجيش التركي، يفسّر اندفاعهم المدمر نحو المناطق الكردية، هو الكراهية العرقية المسوّغة بخطاب ديني ومذهبي يرى في الكردي مجرّد (كافر وانفصالي).
هكذا أحيلت المقاطعة إلى منطقة غير آمنة بالمطلق وهاوية جحيم بالنسبة لسكانها الأصليين (لا فنون لا آداب، لا سلطة عامة، لا ملكية، لا صناعة ولا زراعة ولا مجال للتجارة، وأسوأ ما في هذه الحالة الخوف المستمر وعدم الأمان وخطر الموت عنفاً. حياة بائسة و وحشية وكئيبة) تلك كانت خصائص الحالة الذئبية، قبل الاجتماعية، كما وصفها هوبز في اللوياثان وتنطبق بدقة على واقع مقاطعة عفرين وراهنها، التي اتخذ الرئيس التركي عنواناً شاعرياً لعمليته العسكرية فيها (غصن الزيتون)، واستحالت بعدها إلى فوضى شاملة، حيث الكراهية والعدوانية التي لاحدّ لهما تطبعان الحياة هنا بطابعهما.
أشار تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا- التابعة للمجلس الأممي لحقوق الإنسان- في ٣١ كانون الثاني/ يناير، الذي رصد عبر تحقيقات أُجريت في الفترة الممتدة من ١١ تموز ٢٠١٨ إلى ١٠ كانون الثاني ٢٠١٩، إلى هذه الحالة ووصفها بـ (غياب سيادة القانون، عمليات الاعتقال والاحتجاز التعسفي، الاختطاف والتعذيب و نهب الأملاك الخاصة والاستيلاء على البيوت، تفاقم الوضع الأمني غير المستقر، عمليات الاختطاف على أيدي جماعات مسلحة وعصابات إجرامية من أجل الحصول على فدية، تفجير سيارات مفخخة وعبوات ناسفة مرتجلة، ابتزاز الأشخاص لدفع الرشاوى، النهب الجماعي لحصاد الزيتون، مضايقات للنساء وخطفها، فرض بطاقات هوية…الخ).
كذلك نوّه تقرير حقوق الإنسان السنوي (٢٠١٩) الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، في القسم الخاص بسوريا، وأشار إلى الانتهاكات والجرائم المرتكبة في عفرين بالقول (نهب ومصادرة المنازل المملوكة للسكان الكرد، القوات التركية قتلت المدنيين أثناء الحرب، الاعتقالات والاحتجاز التعسفي والضرب وعمليات الاختطاف، التهجير القسري للمدنيين، نهب واسع النطاق والاستيلاء على منازل المدنيين والمستشفيات والكنائس ومزارات الأزديين، تدمير مواقع دينية للأزديين) وأضاف التقرير (إذا ثبت أن أيّ فرد من أعضاء الجماعات المسلحة، يتصرف تحت القيادة والسيطرة الفعليين للقوات التركية- وهذا ما هو واقع بالفعل- فإن لجنة التحقيق قدرت أن الانتهاكات المرتكبة قد تعزى إلى القادة العسكريين الأتراك، الذي كانوا يعرفون أو يجب أن يكونوا على علم بالانتهاكات).
في ضوء المعايير السابقة، والمتعلقة بالأمن الإنساني، يمكن الإشارة، بتكثيف شديد، إلى بعض الوقائع والممارسات، التي حدثت على الأرض طوال سنتين من الاحتلال التركي:
– القتل العمد والمجازر الجماعية: إذ قتل أكثر من (٣٠٠) مدني، بينهم عشرات النساء والأطفال، و أكثر من (١٠٠٠) جريح أثناء الهجوم العسكري ونتيجة استهداف قوافل المدنيين الفارين من المعارك. وهناك حوالي (١٠٠) قتيل منذ آذار ٢٠١٨ ضحايا السيارات المفخخة وعمليات التصفية الجسدية أو السطو المسلح على بيوت المدنيين وقراهم من قبل المليشيات.
– السطو على الممتلكات الخاصة أو تدميرها: منذ اليوم الأول للعدوان التركي والميليشيات المتحالفة معه، الذي عرف بـ (يوم الجراد)، تعرضت الأملاك الخاصة والعامة والمحال التجارية والورشات الصناعية والحرفية في المنطقة لعمليات نهب وسطو، شاملة ومنظمة. وظلت عمليات السرقة والسطو المسلح على المنازل والممتلكات الشخصية مستمرة حتى يومنا هذا من قبل الجماعات المسلحة، أمام مرأى ومسمع الجيش التركي، الذي اكتفى بمراقبة المشهد دون أن يلجأ إلى ضبط سلوكها أو ردعها عن القيام بذلك. وعمدت تلك الجماعات إلى طرد المئات من العوائل الكردية من منازلها وسطت عليها واستوطنتها.
– التهجير القسري وعمليات التغيير الديموغرافي: وهذه كانت أحد أهم الأهداف السياسية للرئيس التركي من وراء العملية العسكرية. إذ كان يصرح علانية قبل الغزو بأن نسبة الكرد في عفرين ٣٥٪ والباقي هم عرب وتركمان وأن عليه أن يعيد الأرض لأصحابها. مخالفاً بذلك كل حقائق التاريخ والديموغرافية. وبالفعل أصبح نسبة السكان الأصليين من الكورد الآن أقل من ٢٥٪ بعد أن كان ٩٧٪ عشية الغزو التركي. ونقص عدد السكان الأصليين إلى ١٥٠ ألف نسمة تقريباً حسب التقديرات ونزح حوالي ٣٥٠ ألف قسراً تحت سياسات التهديد والترويع، التي مارستها الميليشيات المسلحة. وبالمقابل تمّ توطين عشرات الآلاف من عوائل المسلحين المتشددين الذين نزحوا من جنوب سوريا ووسطه، بموجب تفاهمات أستانا بين الروس والأتراك، في بيوت ومزارع السكان الأصليين بعد الاستيلاء عليها. كذلك منع عودة أهالي عشرات القرى إلى بيوتهم، إما بسبب استغلالها من قبل عوائل الميليشيات المسلحة، أو بسبب تحويلها إلى قواعد عسكرية للجيش التركي أو مقرّات للجماعات المسلحة.
– التعامل اليومي اللاإنساني والمهين مع السكان الأصليين: وتعرّض الأفراد لحالات الاستفزاز والابتزاز الممنهج. وخلق مناخ من الرعب لحمل من تبقى منهم على الرحيل القسري.
– حالات الاختطاف والتعذيب في سجون الميليشيات: بسبب غياب سلطة قانونية ناظمة وشرعية، راحت كل جماعة مسلحة تدشّن لنفسها محاكم وسجون خاصة بها، بلغت حدّا من المتعذر إحصائها. وصارت سياسات الاعتقال التعسفي والخطف والتعذيب بحق السكان الأصليين أموراً مألوفة تحت أنظار الجيش التركي. إضافة إلى السجون السرّية، التي غالباً ما تستخدم بهدف ابتزاز أهالي المختطفين وإرغامهم على دفع مبالغ طائلة لقاء الإفراج عنهم. حيث يتعرض معظم المختطفين، من بينهم نساء وأطفال ومسنين، للتعذيب الروتيني. كذلك يجري تهديد أهاليهم عبر مقاطع فيديو مسجلة بذبحهم مالم يدفعوا المال لقاء الرهينة، ولايزال مصير أكثر من (١١٠٠) مختطف ومعتقل مجهولاً لحدّ الآن.
– سياسات الاضطهاد الثقافي وقمع الهويّة: شكّل الجيب الجغرافي الكردي الخالص على الدوام أرقاً دائم للعقل السياسي التركي، من هنا عملت سلطة الاحتلال على إنهاء الوجود الكردي فيه وتغيير الهويّة القومية للمنطقة وإعادة هندستها اجتماعياً وديموغرافياً بشكل ممنهج. لهذا لجأت إلى حظر الثقافة واللغة الكرديتين، اللتين كانتا سائدتين في المجتمع والإدارة قبل الغزو. وبالمقابل عمدت إلى فرض اللغة التركية والعربية، كلغتين رسميتين في المنطقة. كذلك شرعت بتغيير أسماء القرى والبلدات والمزارع الكردية واستبدلتها بأسماء تركية. وفرضت مناهج دراسية مؤدلجة باللغة التركية في المدارس مع الاحتفاء المبالغ يومياً برفع العلم التركي في كل مكان. وبموازاة ذلك منع الكورد من الاحتفال بعيدهم القومي التاريخي (عيد النوروز) وأشاعت مناخاً من الكراهية والتحريض ضد الهويّة الكردية وتقاليدها.
– تدمير الإرث التاريخ والحضاري للمنطقة: عمد الجيش التركي ومعه الميليشيات الجهادية إلى نهب وتدمير التراث الحضاري والتاريخي للمنطقة. إذ أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان معلومات عن عملية السرقة الممنهجة، التي تتعرض لها آثار «عفرين»، وتحديداً منطقة النبي هوري المعروفة بأسماء عدة، منها (سيروس) و(قورش) و(النبي هوري)، وتعود إلى عدة حضارات أقدمها من الفترة الهلنستي عام 280 ق.م. وتتعرض تلك المواقع لانتهاكات ممنهجة على أيدي الفصائل الموالية لتركيا، بدءاً من القصف التركي العنيف الذي تعرضت له منذ اليوم الأول لعملية “غصن الزيتون” في يناير/كانون الثاني 2018، الذي أدّى إلى تدمير قسم كبير من تلك الآثار، الذي أدانته منظمة يونسكو في حينها، إلى جانب مواقع أثرية أخرى، تعدّ جزءاً من التراث الإنساني مثل عين دارا و كنيسة مار مارون، التي تعرضت جميعاً للقصف ولحقت بها أضرار جسيمة.
وعادة ما تقوم الميليشيات الجهادية بحفريات تخريبية وعشوائية بالآليات الثقيلة (الجرافات)، بحثاً عن الآثار بهدف سرقتها، وفي أحوال كثيرة أدت ممارساتها إلى تدمير الطبقات الأثرية دون توثيقها، إضافة إلى تدمير المواد الأثرية الهشة كالزجاج والخزف والفخار ولوحات الفسيفساء، وغيرها من الآثار.
– قمع الحريات الدينية وإشاعة ثقافة التطرف الديني: تعرضت الأقليات الدينية في عفرين، كالأزديين والمسيحيين والعلويين، لانتهاكات عديدة مثل الخطف والقتل، قادت في نهاية المطاف إلى تهجير معظمهم، ومنع من تبقى منهم من ممارسة طقوسهم الدينية أو إشهار عقيدتهم، كذلك أجبر العديد منهم على اعتناق الدين الإسلامي، أو أكرهوا على الصلاة في الجوامع. وتعرضت مزارعهم وأماكن عبادتهم للتخريب والعبث بها، مثلما تعرضت الكنيسة التاريخية للطائفة المارونية للنهب والتدمير.
بموازاة ذلك تعمل السلطة التركية على نشر ثقافة التطرف الديني في المنطقة، تحت إشراف مؤسسة (ديانت) التركية التي تتبع الاستخبارات التركية، عبر بناء المدارس الدينية واغراء الأطفال على الالتحاق بها، مثلما عمدت في الآونة الأخيرة إلى تغيير أئمة المساجد الكرد بأئمة أتراك أو عرب، ممن يحملون عقائد متطرفة، ومدرجة أسماءهم على قوائم (الإمام الخطيب) طبقاً لمعايير مؤسسة(ديانت) الأيديولوجية.
تلك هي بعض مظاهر (الحالة الذئبية) التي فرضها جيش الاحتلال التركي في منطقة عفرين بمعية الجماعات المسلحة التابعة للمعارضة السورية، بزعم إقامة (منطقة آمنة). ولم نذكر تفصيلاً مظاهر أخرى مثل استخدام الجيش التركي أثناء عملياته للأسلحة المحرمة دولياً في مناطق سكن المدنيين، كالقنابل العنقودية أو غاز الكلور، كما حصل في قرية (أرندة). ولم نتطرق لاستهدافه البنى التحتية وتدمير المرافق العمومية كالمشافي والمراكز الطبية والجوامع ومحطات مياه الشرب والري، مثل منشآت سد (ميدانكي). ناهيكم بحالات الاغتصاب بحق الفتيات وإرغام القاصرات الكرديات على الزواج من مقاتلي الجماعات المسلحة. أضف إلى ذلك الحالات المتكررة للتمثيل البشع، المنافي للكرامة الإنسانية بجثامين المقاتلات الكرديات اللواتي وقعن أسيرات بأيدي الميليشيات وهن أحياء، مثل الشهيدة (بارين كوباني).
واصل الرئيس التركي حروبه، تحت يافطة أسطورية هي (محاربة الإرهاب)، ووظّف لأجل حروبه تلك أغلب الجماعات الجهادية وأذرعها، التي مارست الإرهاب طوال سنوات الحرب الأهلية. استهدف بها أكثر المناطق السورية أمناً واستقراراً، ذي الغالبية الكردية، التي تحررت أصلاً من سيطرة التنظيم الإرهابي (داعش)، لأجل إقامة (مناطقه الآمنة) المزعومة. وهي لا تعدو أن تكون بالنتيجة سوى مناطق فوضى واضطراب ورعب حقيقية، مناطق جحيم حقيقي للمدنيين، حيث القتل والسطو والسيارات المفخخة يسود في كلّ مكان. ويبدو واضحاً أن الدافع الحقيقي وراء جميع حروب أردوغان هو (الرهاب الكردي) الذي يرغب في التخلص منه بأي ثمن.
في ٩ أكتوبر/ تشرين الثاني ٢٠١٩ أقدم الجيش التركي والجماعات الجهادية مرة أخرى على غزو الشمال السوري بأوامر مباشرة من الرئيس التركي. اكتسحت آلة الحرب التركية وألوف الجهاديين منطقة تمتد من مدينة رأس العين (سرى كانيه بالكردية) بطول يصل إلى ١٢٠ كم غرباً وعمق ٣٢ كم باتجاه الجنوب. تسبب هذا الهجوم بتهجير ٣٠٠ ألف من المواطنين الكرد والعرب والآشوريين والشيشان. وأسفر عن سقوط مئات الضحايا من المدنيين، بينهم أطفال ونساء ومسنين. وارتكب الجيش التركي بمعية الجماعات المسلحة جرائم حرب موصوفة، مثل الإعدامات الميدانية للمدنيين العزل والأسرى، وتمّ التمثيل الشنيع بالجثث كما حصل مع الناشطة السياسية الكردية (هفرين خلف) زعيمة حزب سوريا المستقبل، التي تعرضت لتصفية جسدية فائقة البشاعة بتاريخ ١٢ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٩، بعد أن اعترض طريقها مجموعة مسلحة من المتطرفين التابعين للجيش التركي أثناء غزوه الأخير لمنطقة سري كانييه (رأس العين).
كما استهدف الجيش التركي المرافق الطبية والكوادر وظهر ذلك مباشرة على شاشات الفضائيات الدولية. وأكد خبراء دوليون متخصصون استخدام الجيش التركي للفوسفور الأبيض المحرم دولياً ضد المقاتلين والمدنيين معاً.
هذه المرّة استخدم الرئيس التركي، المولع بالعناوين الرومانسية، عنواناً رومانسياً آخر لعمليته العسكرية، التي أسماها (نبع السلام) !!! التي تحولت فعلياً إلى هاوية يلهو فيها كل مغامر مهووس بالقتل وكل متطرف مفتونٍ بالكراهية والحروب الأهلية.
/أستاذ مساعد في جامعة كويه، كوردستان العراق.
* جريدة الوحـدة – العدد 321- آب 2020م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).