سوريا بين مطرقة النزاعات وسندان النزعات … أوضاعٌ إنسانية بائسة، وقرارٌ دوليٌ مُغيّبٌ
افتتاحية الوحـدة*
التبصُّر في الوضع السوري جيداً يضع المرء أمام لوحةٍ معقدة ومتداخلة من المآسي والنزاعات والنزعات، وكذلك شبكات قوى متداخلة من خارجية وداخلية مستحكمة بزمام الأمور على الأرض مشكلةً عائقاً كبيراً أمام أي تطورٍ شامل باتجاهٍ ما، فالصراع بينها لا زال محتدماً واللعب بمصائر البشر جارٍ على قدم وساق.
صدر قرار مجلس الأمن الدولي /2254/ حيال الأزمة السورية بالإجماع، ومضى عليه ما يقارب الخمس سنوات، والذي يستند في جوهره إلى تحسين الأوضاع الإنسانية ووضع حدٍ لمعاناة المواطنين ولنزيف الدم أولاً، الأمر الذي يُشكل أرضيةً أساسية لخلق أجواء الثقة بين السوريين ويُعتبر بوابةً رئيسية للتوجه نحو الحل السياسي.
إذ مجمل مجالات الحياة باتت في تدهورٍ مستمر، والمشهد السوري الاجتماعي والديمغرافي أضحى أكثر تعقيداً ومأساوياً من السابق، خصوصاً بعد الاحتلال التركي لبعض المناطق الكردية- شمال سوريا؛ وإن تم دحر «داعش» وتقليص مساحات سيطرة باقي الميليشيات الإرهابية من النصرة وغيرها بشكلٍ كبير وتخلصت أكثرية المدن السورية من الحروب، إلاّ أنها لاتزال قادرةً على شن هجمات دموية تطال أهداف مدنية وعسكرية في الساحتين السورية والعراقية على حدٍ سواء، كما أن معظم المجتمعات المحلية في تلك المناطق قد تشتت بسبب الحروب والهجرة القسرية وسلسلة الانتهاكات الأخرى، رغم التحسن الملحوظ في أوضاع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد».
ما زاد الوضع قتامةً، احتلال تركيا لمناطق عديدة في شمال وشمال شرق سوريا وبسط نفوذها العسكري والاستخباراتي في محافظة إدلب التي لا يزال جزءٌ كبيرٌ منها تحت هيمنة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، واستيلائها أيضاً على إرادة وقرار الائتلاف السوري – الإخواني المعارض، واستخدامها لبقايا تنظيمات القاعدة وميليشيات ما يسمى «الجيش الوطني السوري» كمرتزقة مأجورين ضد الكُـرد و «قسد» وفي حروبها داخل ليبيا أيضاً.
إن أسوأ الأوضاع من حيث الفوضى والفلتان وحجم الانتهاكات والجرائم المرتكبة ودرجة معاناة الناس، هي السائدة في المناطق السورية التي تقع تحت سيطرة ونفوذ تركيا والميليشيات الموالية لها، خاصةً مناطق (عفرين، كري سبي/تل أبيض، سري كانيه/رأس العين) المحتلة، حيث تُمارس أنقرة سلطتها السيادية عليها وتُنفذ سياسات عدائية ممنهجة ضد الكُـرد ووجودهم التاريخي فيها.
والمتجول في الأراضي السورية يرى مناطق شاسعة خالية من أهاليها، ومناطق أخرى مكتظة بالنازحين والمخيمات البائسة يعيش معظم سكانها على المعونات الإنسانية والإغاثية في ظروفٍ قاسية، غائبين عن أراضيهم التي لطالما عشقوها ودون أن يتمكنوا من زراعتها وجني محاصيلها أو من بناء ما دمرته الحرب، ململمين جراحهم التي هيهات أن تندمل.
لا يزال القتل والتهجير والتغيير الديمغرافي والتجويع والحصار والاعتقال العشوائي والإخفاء القسري للمختطفين وقطع مياه الشرب والفساد بكل أشكاله، إلى ما هنالك من انتهاكات وجرائم وأوجه الضغط على الشعب السوري بكل مكوناته وشرائحه، مستمراً دون أن يندى له جبين أحدٍ من تجار الأزمات والمستبدين ومروجي الحروب والإرهاب وحكومات دول متدخلة عديدة.
وما زاد الطين بلةً، العقوبات الاقتصادية وقانون «سيزر» وتدني قيمة الليرة السورية وتداعيات جائحة كورونا، وبالتالي تدهور الوضع المعيشي، إضافةً إلى نَقص عدد المعابر الحدودية الإنسانية مع سوريا والمعتمدة من قبل مجلس الأمن إلى الواحد بدلاً عن أربعة.
كل ذلك وكأن القرار /2254/ قد أقرَّ بخصوص بلدٍ آخر، دون أن تلتزم به جهةٌ معنية ولو بنسبةٍ مقبولة إنسانياً، ناهيك عن إعاقة جهود إيجاد حلٍ سياسي لأزمة البلد، لذلك نرى أن مباحثات اللجنة الدستورية العتيدة تدور في حلقاتٍ مفرغة.
إن المخلص لسوريا والجاد في السعي لحل أزمتها المستفحلة، هو الذي يساهم بشكل حثيث وقوي في تحسين الوضع الإنساني عامةً، اليوم قبل الغد، من وقفٍ لنزيف الدم والدمار إلى حلّ ملف المعتقلين والمختطفين والمفقودين، وفك الحصار عن مختلف المناطق وتوفير الطاقة وسبل العيش والعودة الطوعية الآمنة للمهجرين قسراً إلى ديارهم، مساهمةً في إعادة بناء المجتمعات المحلية ونبذ النزعات الطائفية وخطاب الحقد والكراهية واستتباب الأمان والسلم الأهلي، وبالتالي في تقدم وإنجاح جهود الحل السياسي.
* جريدة الوحـدة – العدد 321- آب 2020م– الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).