تطور الوعي السياسي القومي الكردي في الدول الأربع، إيران وتركيا والعراق وسورية، التي يتوزع فيها الأكراد، وكان ذلك منذ منتصف القرن العشرين في سورية على نحوٍ خاص، بعد أن حُرموا من تحقيق حلمهم بإقامة دولتهم القومية، من جراء تضارب المصالح الدولية والإقليمية والسياسات الشوفينية التي لم تخلُ منها أي من هذه البلدان، وإلى هذه الدرجة أو تلك.
اعترضت المشروع القومي الكردي عراقيل كثيرة وما تزال، ما يجعل إمكانية تحققه في المدى المنظور أمرًا صعبًا، لذا، من الأهمية بمكان أن يتم التركيز حاليًا على ترتيب الأوضاع السياسية للأكراد في البلدان الأربع التي يتواجدون فيها، بانتظار تطورات مناسبة قد تساعد في تحقيق هذا المشروع بطريقة أو بأخرى، إذ يمكن أن تتم إعادة تشكيل دول المنطقة سياسيًا واقتصاديًا وحقوقيًا، بحيث لا تعود ثمة حاجة إلى هذا المشروع بصيغته التقليدية على الأقل، نظرًا لإمكانية توافر الظروف التي تحتاج إليها شعوب المنطقة لتأكيد ذاتها في المستقبل بطريقة أخرى، ومنها وجود أنظمة حكم ديمقراطية، لا مركزية أو فيدرالية مناسبة.
في الوقت الحالي، تتباين أوضاع الأكراد السياسية ودرجة التعبير عن الرأي وممارسة الحياة الثقافية من بلدٍ إلى آخر، ومعظمها يميل إلى تقييد هذه الحقوق، والاستثناء الأبرز هو ما تحقق في شمال العراق بعد تضحيات جسيمة، مع أن ذلك قد يكون عكوسًا في ظروف المنطقة التي ما زالت بعيدة عن الاستقرار.
تعرض الأكراد في سورية إلى ممارسات شوفينية أيضًا، بخاصة من جراء السياسات البعثية، كالحرمان من الجنسية والتعريب وغيرها. ثم انعكست مفاعيل الثورة والحرب في سورية على كل مناحي الحياة في المناطق الشمالية الشرقية ذات الأغلبية الكردية، كما في معظم أنحاء سورية، وتعرض الأهالي فيها للقمع وعانوا من ويلات الحرب، وزرع فيها إرهابيو داعش الموت والدمار. كما تغيرت مواقع القوى السياسية واصطفافاتها وتحالفاتها، وحضرت فيها الصراعات الدولية الإقليمية.
في هذه الأثناء، رجحت كفة حزب الاتحاد الديمقراطي والهيئات المنبثقة عنه، بسبب دوره المهم في الحرب على داعش، وتحول إلى نواة لقوات سورية الديمقراطية التي ضمت المكونات الأخرى في الجزيرة، كالعرب والسريان والتركمان، وتلقت الدعم والمساندة من قبل قوات التحالف الدولي ضد داعش بقيادة الولايات المتحدة.
وبغض النظر عن الملاحظات الموجهة إلى هذا الطرف الكردي أو ذاك، فإن إعادة صياغة العلاقات بين حزب الاتحاد الديمقراطي وقوى المجلس الوطني الكردي تعد ذات أهمية قصوى من أجل بلورة موقف موحد تحضيرًا للتطورات القادمة في سورية، والتي ستكون سياسية هذه المرة، وتمهد لاتفاق دولي – إقليمي ينهي الصراع المستمر منذ تسع سنوات، ويسمح للسوريين بإعادة ترتيب علاقاتهم البينية في وطن حر وديمقراطي، ولا مركزي لهذه الدرجة أو تلك، أو بأية صيغة محددة سيتم الاتفاق عليها. من هنا يمكن اعتبار المفاوضات الجارية حاليًا بين الطرفيين السياسيين الكرديين برعاية الولايات المتحدة خطوة مهمة على هذه الطريق.
كما تعدّ الإشارات التي صدرت في الآونة الأخيرة على لسان المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، حول دور الروس المهم في سورية، وما قابلها من ضغوط على السلطات السورية عبرت عنها بعض التسريبات الروسية غير الرسمية تعدُّ مقدمات ضرورية للجلوس حول طاولة المفاوضات. ومع أن السفير الروسي في سورية عاد ونفى وجود مشاكل في العلاقات الروسية – السورية، فهذا لا يعني سوى أن الروس يتريثون للحصول على مقابل مجدٍ من الغرب لقاء ضغوطهم على النظام.
لقد كان التوافق الروسي – الأميركي حول المسألة السورية، وما يزال، حجر الأساس للحد من التدخلات الإقليمية، بخاصة من قبل تركيا وإيران، لا بل أن هذا التوافق هو الأمر الوحيد القادر على كبح مطامع هاتين الدولتين في المدى المنظور، وريثما تتفعل القوى الداخلية السورية، وتحل محل القوى الحالية التابعة لهذه الدولة أو تلك، والتي وصل بعضها حدّ الارتزاق.
إن الدور الكردي في سورية المستقبل حيوي للغاية، ويعد أحد ركائز سورية الديمقراطية، والذي سيساهم في تقليص دور القوى الطامحة للعودة إلى الاستبداد أو تلك التي تحاول استبداله باستبداد آخر، وهذا لا يتم إلا بتوحيد الموقف الكردي المنتظر من المفاوضات الحالية التي ترعاها دول التحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة، ورفع يد تركيا وغيرها عن محاولات التدخل في الشأن الداخلي الكردي.
لا يعني الدور الكردي في شمال شرق سورية التقليل من شأن القوى أو المكونات الأخرى، إنما على العكس، فهذا الدور يجب أن يصب في اتجاه تطوير تجربة قوات سورية الديمقراطية والإدارة الذاتية لتلائم جميع الأطراف المنخرطة فيها، فلا يعود يتحكم فيها طرف واحد، مهما كانت قوته، ونكون قد قطعنا شوطًا مهمًا في الطريق إلى توحيد سورية وإحيائها من جديد.