الحرب تحمل في طياتها الدمار المادي والبشري والنفسي والاجتماعي, والشعب الكردي تحمّل من ويلاتها الكثير, هذا الشعب الذي بنى حضارات عريقة (حضارة الميديين و…) وقدّم للإنسانية خدمات جليلة وفي كافة الميادين (الطب والجغرافيا, التاريخ واللغة والأدب والفقه والفن)، أمثال الإدريسي وابن خلكان, والسهروردي, وزرياب… الخ. وقد أثبت الكرد شجاعتهم وبسالتهم في محاربة الظلم والطغيان على مرّ العصور وإلى يومنا هذا، ولمع نجم الكُرد أفراداً (دياكو, رستم زال, صلاح الدين الأيوبي, بدرخان بك, ملا مصطفى البارزاني…), وجيوشاً (البشمركة, و وحدات حماية الشعب والمرأة… ). وفي وصف شجاعة الكُرد والتغلغل إلى صفاتهم النفسية يقول أمير شعراء الكُرد ومؤسس نهضتهم القومية «أحمد خاني»: البسالة والهمة والسخاء، الرجولة والشجاعة والصمود سمات للكرد، وبقدر استبسالهم وحرصهم على الشجاعة ينفرون من حمل المِنّة، بهذه الشجاعة وعلوّ الهمة غدوا مانعين من حمل المِنّة، لذلك تراهم دوماً لا يتفقون وهم متمردون على بعضهم يحبون الشقاق1.
حتى يقول فيهم المرحوم «السيد محمود الألوسي»: إنّ لفظ «القوم» الذي ورد ذكره في سورة الفتح في الآية الكريمة: (سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ …) كناية عن الشّعب الكردي2.
وقد سالت دماء طاهرة كثيرة ودمرت مدن فوق رؤوس أهلها المسالمين منذ عهد الكوتيين إلى اليوم، يقول شلمانصر: إنّ دماء الشعب الكوتي أُريقت كالمياه الجارية في منطقة كبيرة تمتد من حدود اوراتري حتى كموخي3.
وكما لكل الحضارات (عصور القوة والازدهار, ثمّ الضعف والانحطاط, ثمّ الانهيار)، كذلك انهارت الإمبراطوريات والإمارات الكردية, وقد حاول المنتصرون جاهدين طمس وتشويه الهويّة القومية والحضارية للكُرد. فقد أوصى قمبيز الفارسي وهو على فراش الموت أبناءه قائلاً: يجب ألاّ تسمحوا للميديين بالعودة إلى الحكم أبداً, واعملوا بكل السبل كي يندثروا.
وكذلك أحرق إسكندر المقدوني /16000/ ستة عشر ألفاً من مجلدات آفستا, وكذلك لم يسلم التاريخ الكردي من التشويه على أيدي حكام وعلماء وشيوخ مسلمين.
ومنذ سقوط الكُرد تحت نير الدول الغاصبة لكردستان التاريخية، وتاريخهم يشوّه ومناطقهم تتعرض للتجهيل والإهمال بشكل ممنهج، ممزوجاً بحقدٍ لا يوصف، إذ قال الراحل سامي عبد الرحمن: (إنّ النظام العراقي يسير في خططه التنموية وفق منهجٍ يزيد تخلف المناطق الكردية بالنسبة إلى باقي مناطق العراق… وتسوق السلطة الفاشية المناضلين الكرد إلى ساحات الإعدام بالعشرات وتُجبر المواطنين على حضور هذه المشاهد الرهيبة)4، كما تفعل إيران اليوم. ونتيجة الإهمال المتعمّدَ للمناطق الكردية أو ذات الأغلبية الكردية في سوريا من النواحي الخدمية، عانت أهاليها من أمراض وأوضاع اجتماعية صعبة، على سبيل المثال (انتشار اللاشمانيا – حبة حلب – في حيي الأشرفية وشيخ مقصود، النزوح من الأرياف نحو مراكز المدن الكبيرة…).
أضف إلى ذلك سياسات التهجير الممنهجة في أجزاء كردستان، ففي العراق وبعد وصول نظام البعث العفلقي إلى السلطة لجأ إلى حملة من التخريب والتهجير الواسعتين واستخدم الغازات السامة، وفي ذلك يقول الراحل «عبد الرحمن»: (هو أول نظام طبّق التهجير بحق الأكراد في العراق عام 1963)، حيث (هجّر زهاء نصف مليون منهم من مناطق سكناهم في الفترة 1975-1978 من الحدود والمناطق النفطية والسهلية التي يجري تعريبها باستمرار إلى مناطق أخرى داخل العراق)5، وفي نفس تلك الفترة تم تطبيق مشروع «الحزام العربي» على الطرف السوري, ونفس السياسات مارستها تركيا وسوريا, وكذلك فعل ستالين. ناهيك عن الحملات الإعلامية والدعايات المغرضة الساعية إلى تشويه صورة الكُرد قديماً وإلى اليوم, حتى أنّ بعض المتطرفين غيّروا قوله تعالى: (اَلأَعَرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) إلى (الأكراد أشدّ كفراً ونفاقاً). فقال إنّ الله عزّ وجل لم يسافر إلى شهرزور فينظر إلى ما هناك من البلايا المخبئات في الزوايا… ولو تأملنا فيما جاء في قول ياقوت الحموي لرأينا بأنّه يتهم الكرد بالسلب والسرقة، مع العلم يوجد أفراد في كلّ الشعوب من يقوم بهذه الأعمال الدنيئة, وحتى في عصرنا الحاضر لا تخلو أي منطقة في العالم من اللصوص والقتلة ولكن بشكل متفاوت، أمّا اتهام شعب بكامله، فهذا مناف للعرف الأدبي والأخلاقي والقانوني6.
والأسوأ من كلّ ذلك تشويه الشخصية الكردية, وهدم صفاتها الحسنة التي ذكرها المستشرقون (إنّ العواطف العائلية بين الأكراد نامية جداً. فهم مخلصون, أعفّاء النفوس, مضيافون)7. و كذلك السعي الحثيث لصهر الشخصية الكردية في بوتقة العادات والتقاليد الدخيلة البالية، والقضاء على اللغة الكردية العريقة التي قال عنها الميجر «ادمونس» ما يأتي : (أصبح من الوضوح بمكان أنّ اللغة الكردية ليست عبارة عن لهجة فارسية مُحَرّفة مضطربة, بل إنها لغة آريّة نقيّة معروفة, لها مميزاتها الخاصة وتطوراتها القديمة)8. ولكنّ الكرد وقفوا في وجه تلك الممارسات والسياسات الرعناء وشكلوا الجمعيات (جمعية تعالي وترقي الكرد في آستانة سنة 1908، هيفي سنة 1910 من قبل طلبة الكرد، خويبون…) وأصدروا الجرائد والمجلات (كردستان، روزا كورد، جين آستانة 1919، روناهي- دمشق كاميران بدرخان 1942… ). وكان لآل بدرخان دوراً بارزاً في النهضة الفكرية (كاميران، جلادت، ثريا)، وكذلك لعبت الأحزاب الكردية دوراً هاماً في وجه تلك السياسات الإنكارية الإقصائية, الرامية إلى اضمحلال الكُرد وثقافتهم من خلال نشر الوعي واللغة بين الناس، متحملةً ما يلحق بأعضائها من الملاحقة والسجن والتعذيب والموت والنفي.
ولكن ونتيجة لتباين الآراء والمدارس الفكرية والتدخلات الأمنية وأسباب عديدة أخرى، تشرذمت الحركة الكردية للأسف وتشظت إلى العشرات من الأحزاب المتناحرة فيما بينها9، ليتقدمها الولاء للقائد الزعيم, ويبدو أنّ هذا الولاء إرثٌ تتوارثه الأجيال، كما هو واضح في قول محمد أمين زكي: (تمتاز الحياة الاجتماعية بين الكرد بثلاثة أوصاف بارزة: 1- التفاف الكرد حول الزعيم كائناً من كان, وقد يكون أجنبياً. 2- إطاعتهم لهذا الزعيم طاعة عمياء، وهنا المشكل. 3-انقسامهم إلى طبقات اجتماعية (زرّاع وأصحاب حرف)10.
والكرد اليوم يخوضون حرباً شرسة ضد عدو الإنسانية, ناهيك عما يتعرضون له في تركيا وسوريا على يد أمير داعش أردوغان, وكذلك في إيران على يد الملالي خلفاء قمبيز وقورش.
وتخوض القوات الكردية على اختلاف مسمياتها حربها ضد التنظيمات الإرهابية، دفاعاً عن الأرض والعرض، وفي سبيل نيل الحرية والخلاص من الظلم الممنهج المتكرر، حيث يتعرض الكرد وعلى مرّ التاريخ لحملات الإبادة الممنهجة، وآخرها على منطقة عفرين الكردية- السورية التي قاومت الاحتلال التركي التوسعيّ ومرتزقته مما يسمى بـ «الجيش الوطني السوري» /58/ ثمانية وخمسين يوماً بدفاعٍ بطولي قلّ نظيره، ولكن بمؤامرة دولية دنيئة سقطت مدينة السلام «عفرين» بيد لصوص ومجرمي العصر، فأدى إلى نزوح أكثر من ثلاثمائة ألف مواطن أبعدوا عن ديارهم قسراً، ومنذُ سنتين ونيف وآلة القتل والسلب والنهب واستهداف المسنين، وبطرق وحشيّة على أيدي الميليشيات الإسلامويّة المتطرفة وبإشراف الميت التركي، تحصد أرواح وأرزاق الأبرياء العُزّل، ناهيك عن حرق وقطع الغابات وتحطيب عشرات الآلاف من أشجار الزيتون وسرقة وتدمير الآثار التاريخية وتعريض المنطقة لأعمال إرهابية وكان آخرها التفجير الذي ضرب السوق الشعبي وأودى بحياة أكثر من خمسين شهيداً وأكثر من ستين جريحاً، جُلّهم من المدنيين؛ وكذلك احتلال مدينة كري سبي وسره كانيه وتهجير سكانها والاستيلاء على بيوتهم وسرقة الآليات وأثاث المنازل والقتل على الهويّة، ومازال مسلسل الإجرام مستمراً. كلّ تلك الأعمال تحدث تحت مسمع ومرأى الاحتلال التركي المستفيد الوحيد من قمع الكرد، تنفيذاً لسياسات قديمة جديدة (لو كان للكرد خيمة في أفريقيا لحاربناها) وبتواطؤ دوليّ مقيت، فصمت دولٍ كبرى دليلٌ على تغاضيها عن سياسات تركيا العدائية.
كما أن «وحدات كردية مقاتلة» سطرت أروع ملاحم البطولة والفداء في وجه أعتى تنظيمٍ إرهابي, فتبوّأ من خلالها المقاتل الكردي مكانة رفيعة في الإعلام العالمي, وأصبحت – وبفضل الدماء الطاهرة – القضية الكردية تشغل الرأي العام الدولي الذي بدأ وإن بشكل خجول يدعم الكُرد الذين يتجاوز تعدادهم الأربعين مليون نسمة، ويعيشون على أرضهم التاريخية ومحرومون من حقوقهم المشروعة, ومن حقّ تقرير مصيرهم.
المراجع :
1- «أحمد خاني شاعراً ومفكراً وفيلسوفاً ومتصوفاً»، د. عز الدين مصطفى رسول / ص97.
2- «خلاصة تاريخ كرد وكردستان»، محمد أمين زكي/ ص273، ط4-1996، مطبعة. كرد برس، لبنان – بيروت، الناشر: هوشنك كرداغي.
3- المصدر السابق / ص 55
4- «البدايات والآفاق»، سامي عبد الرحمن / ص 74 – 75 /، مطبعة كه ل – كوردستان آذار 1988.
5- المصدر السابق / ص 78 – 79 .
6- «صلاح الدين الأيوبي (موطنه الحقيقي والدور التاريخي للأيوبيين)»، عبد الخالق سه ر سام / ص 42، ط1- 2001، كاوا للنشر و التوزيع.
7- «القضية الكردية ماضي الكرد وحاضرهم (جمعية خويبون الكردية الوطنية – النشرة الخامسة)»، د. بله ج شيركو/ ص39.
8- «خلاصة تاريخ كرد وكردستان» / ص 206 .
9- «مجلة الحــــوار / العددان 48 – 49/»، ص 20 /عام 2005.
10- « خلاصة تاريخ كرد و كردستان» / ص 276.