تفجيرُ عفرين الأخير لم يأتِ حادثاً منفرداً، بل جاء في ظلِّ بيئةٍ من الانفلاتِ الأمنيّ، شهدت حوادثَ تفجيرٍ عديدة، ليس في عفرين وحسب بل في كلِّ المناطقِ التي تحتلها تركيا. وأيّ عمليّةٍ لفصلِ حادثِ التفجيرِ عن السياقِ العامِ المتمثلِ بواقعِ الاحتلالِ والتفجيراتِ السابقةِ والاقتتالِ الفصائليّ وجرائم القتلِ ومجملِ الانتهاكاتِ والتعدياتِ التي شملت كلّ تفاصيلِ الحياةِ، سينتهي إلى تضييعِ الحقيقةِ. وقد أعاد التفجيرَ قضية احتلال عفرين والمناطق المحتلة إلى الواجهةِ بعد جملة من الأحداث، وأهمها التهديد العالميّ لوباء كورونا والتدخلِ العسكريّ في ليبيا عبر مرتزقةٍ سوريين.
عفرين والانفلات الأمنيّ
قبل أن ينطفئَ الحريقُ الناتجُ عن تفجيرِ عفرين وفيما كانت سحابةُ الدخانِ الأسودِ تتصاعدُ في سماءِ المدينةِ، وجثثُ الضحايا متفحمةٌ ولم تُستخرج من زوايا السوقِ، وصراخُ المصابين يشقُّ عنانَ السماء ألماً، في هذه الأثناءِ شهدت شاشاتُ فضائياتٍ ومواقعَ تواصلٍ اجتماعيّ تُسمّى بالمعارضة، تسابقاً لتوجيهِ الاتهامِ إلى الكُردِ سواءٌ سمّوا طرفاً معيناً أو على نحوٍ من التعميمِ. والسؤال هل للكُردِ فعلاً مصلحة بالتفجير أكثر من أنقرة التي تسعى لتكريسِ الاحتلالِ؟ وما الأدلةُ التي اُستند إليها؟ إذ لا وجودَ لقواتٍ كرديّة عسكريّة أو أمنيّة واقعاً، وأما ما قد ينفذه الكرديّ فهو شكلُ العمليةِ المحدودةِ بالمكانِ والزمانِ وتستهدفُ الاحتلال َمباشرةً وليس عبر التفجيرِ. علاوة على أنّ تفجيراً كبيراً بهذا الحجم والنتيجةُ لا يخدمه!
في السياسة تُطرحُ أفكارٌ كثيرةٌ على سبيلِ المشاغلة، وهي إنشائيّةٌ افتراضيّةُ لا تستندُ إلى الحقائقِ على الأرض، فالحقيقةُ الأكثر ثباتاً هي أنّ عفرين التي لم تشهد طيلةَ سنواتِ ما قبل العدوان حوادثَ تفجيرٍ من أيّ نوعٍ، وكان أهلها ينعمون بالأمنِ والاستقرارِ، وحققتِ المعادلةَ المستحيلةَ المتجسدة بالأمنِ والاستقرارِ في بلدِ الحربِ، فيما اعتبرتها أنقرة «محتلة» من قبل سلطةِ أمر الواقع. وفي جردةِ حسابٍ بسيطةٍ، نسأل ما الذي جرى خلال أكثر من عامين من الاحتلالِ؟ البدايةُ كانت بالتهجير القسريّ لأهلِ عفرين الأصلاء، إذ تواصلتُ حملاتُ النهبِ والسرقاتِ والاستيلاءِ على الممتلكاتِ والتغييرِ الديمغرافيّ وجرائم القتل والتعذيب والاختطاف والإخفاء القسريّ وعدا الانتهاكاتِ اليوميّة المختلفة.
من عادةِ اللصوصِ اتفاقُهم في السرقةِ واختلافهم حول القِسمةِ، وهذا حال ميليشيات ما يُسمّى بالجيشِ الوطنيّ السوريّ، إذ خرجت مؤخراً أصواتٌ كثيرةٌ تنتقدها، فاعترفت بواقعِ الانفلاتِ الأمنيّ والسرقاتِ والتعدياتِ والاختطافِ وتقسيمِ المنطقة إلى مزارع، ولكنها لوت عنقَ الحقيقةِ بتوصيفِ عفرين بأنّها «محررة»… فهل التحريرُ يعني تحريرَ منطقةٍ من أهلها وتهجيرهم والاعتداءَ على من بقي فيها؟ هل التحرير يعني أنّ من يُفترضُ أنّه مرحّلٌ ومنقولٌ قسراً يقتلُ صاحبَ الأرضِ، لنكون أمام حالةٍ استيطانٍ، وليس مجرّدَ نزوحٍ يحرّض عوامل التعاطفِ الوجدانيّ! وكلنا يتذكر أنّ العدوانَ والاحتلال تمّ تبريرهما بهواجسَ افتراضيّة وتهمٍ باطلةٍ من قبيلِ «الأمن القوميّ التركيّ» وهي ترجمةٌ لطموحاتِ أنقرة بالاحتلال ومعاداة الشعبِ الكرديّ. والسؤال الذي يُطرح بوضوحٍ ما هي الحالة الكرديّة التي تحظى برضا أنقرة؟ هل السوريّ معنيٌ بالأمن القوميّ التركيّ على سوريّ آخر؟ هو واقعٌ يطرحُ السؤال حول مقتضياتِ الانتماءِ الوطنيّ مباشرةً.
حادثُ التفجيرِ كغيره من الحوادثِ يؤكّدُ هزالةِ موقفِ جهاتٍ معارضةٍ تحوّلت إلى منابرَ تبررُ القتلَ؛ فالعميد أحمد رحال على شاشة أورينت، وهو كغيره من المعروفين بكراهيته للكُرد، لم يستطع إخفاءَ جزءٍ من الحقيقةِ، فأقرَّ بالانفلاتِ الأمنيّ والفساد الإداريّ، وأكدّ على أنَّ ما كان اسمه «الجيش الحرّ» أضحى عصاباتٍ تقومُ بالسرقةِ والسلب والنهب، وأشار إلى تقاسمِ المنطقةِ بين المجاميع المسلحة على شكلٍ مزارع، حيث يتمُّ توقيفُ سيارة تحملُ خرافاً أو حطباً لتُفتشَ، فيما تمرُّ سيارةٌ مفخخةٌ وتدخلُ المدينةَ دون ملاحظةٍ، ولكنه مع الإقرارِ بكلِّ تلك الحقائقِ لا ينفكُّ عن توصيفِ المنطقة بالمحررةِ. وهذا ليس مستغرباً من شخوصِ المعارضة المواليةِ لتركيا، فهم مجبرون على تبنّي توصيفِ أنقرة، باعتبارهم أدواتها وأبواقها، ففي إطارِ الولاءِ لولي النعمةِ نجدَ الوكيلَ أكثر حقداً من الأغا.
تقييم حادث التفجير
سياسيّاً وقع التفجيرُ في ظلِّ الاحتلالِ، حيث يرتفع العلمُ التركيّ فوق كلّ المؤسسات والمقار الأمنيّة في عفرين، وبالتالي هو وحده يتحملُ المسؤولية. بالإجمال، والاتهامُ السياسيّ، لا يعني مجردَ التقييم النظريّ، بل الشراكةَ الأوليّة بالتفجيرِ قبل وقوعه، لأنّ الاحتلالَ هو الحاضنةُ المباشرةُ للانفلاتِ الأمنيّ ولكلّ الجرائمِ التي تقع على كامل مساحةِ المنطقةِ، والتفجير وقع قربَ مقرّ الوالي التركيّ (مبنى السراي القديم)، حيث الوجودُ الأمنيّ تركيّ وليس فصائليّ!
في هذا التوقيتِ تحتاجُ حكومةُ أنقرة حدثاً كبيراً يشغلُ الرأيَ العام التركيّ والدوليّ عن سياستِها التي تضمنتِ التدخّلَ في سوريا واحتلالَ مناطق فيها واستمرارَ العدوانِ على مناطق التهجيرِ القسريّ لأهالي عفرين وسائر المناطقِ الحدوديّة، ومقتلَ الجنود الأتراك في إدلب والتدخلَ السافر في ليبيا وتحويلَ المسلحين السوريين إلى مرتزقة، والفشلَ في احتواءِ وباء كورونا وارتفاعَ عددِ الضحايا الذين تتكتم عليهم الحكومة لما يسببه من إضعافٍ لموقفها السياسيّ أمام المعارضةِ والمجتمعِ.
جنائيّاً التفاصيلُ غير واضحة تماماً إلا في نتائجها، ولكننا نناقشُ الرواية التي تمَّ تسويقها، من منطلقِ أنّ البحثُ عن فاعلِ أيّ جريمةٍ يتم عبر معرفةِ المستفيدِ من وقوعها، وأنقرة وحدها هي المستفيدة وأدنى الفوائدِ حالةُ الهلعِ والخوفِ والانشغالِ لدى الجميع، وتشتيتُ الرأي العام، وهذا يندرجُ في ركنِ الجريمةِ المعنويّ. وأنقرة هي الخيطُ الرابطُ بين جملةِ من الأحداثِ المتداخلة، وتجاوزها بحاجةٍ لحدثٍ كبير. أي أنّ الركنَ المعنويّ للجريمةِ يتداخلُ مباشرةً مع الأهدافِ السياسيّةِ.
أما الركن الماديّ للجريمة فيتعلقُ بالإجابةِ على أسئلةٍ من قبيل كيف وصلت الشاحنة والسيارة المفخّخة بشكلٍ متزامنٍ إلى قلبِ المدينةِ وعبرتا الحواجزِ، وسارتِ الشاحنةُ في شارعٍ يُفترضُ أنَّ مرورَ الصهاريجِ والشاحنات ممنوع فيه! ويبقى السؤالُ عن المكان والزمان والأسلوب معلقاً، والفيديو الذي تمَّ نشره كان محاولةً لتضييعِ الحقيقةِ، إذ لا يظهرُ فيه تشظّي السيارةُ التي يُفترضُ أنّها انفجرت أمام الشاحنة.
ما يلفت الانتباه هو أنّه لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى تمَّ نشرُ اعترافاتٍ لشخصين ألقت سلطاتُ الأمنِ التركيّة القبضَ عليهما، وأفادا بضلوعهما بحوادث تفجيرٍ مقابل مبالغ ماليّةٍ كبيرةٍ مدفوعةٍ بالدولار، فما سرَّ هذا الإجراءِ الفوريّ واعتقالِ متهمين، فيما مئاتُ التعدياتِ مرّت دون أدنى محاسبةٍ، بل تمّت تبرئةُ القتلةِ علناً؟ والجواب ببساطةٍ يؤكّدُ أنّ المطلوبَ ترميمُ صورةَ الاحتلالِ البغيضة، والإيحاءُ زوراً بوجودِ متابعةٍ أمنيّةٍ.
تصعيدٌ بغاية الابتزاز
كان التدخلُ التركيّ في جرابلس والباب وعفرين وتل أبيض ورأس العين باستخدامِ قفازات (سوريين)، فكانتِ الخسائرُ التركيّة بالحدِّ الأدنى. أما في إدلب فالموقفُ مختلفٌ، لأنَّ أنقرة اضطرت لنزعِ القفازاتِ وتقاتلُ معتمدةً على قواتها مباشرةً، فبعد تآكلِ خطوط اتفاق سوتشي 18/9/2018 والتصعيدِ العسكريّ في إدلب ومقتلِ نحو 60 جندياً تركيّاً، هرول أردوغان إلى روسيا واستجدى هدنة موسكو في 5/3/2020، لوقفِ إطلاقِ النارِ وحفظِ ماءِ الوجهِ، ولم يجرؤ على اتهامِ موسكو بل وجّه الاتهامَ إلى دمشق.
أنقرة محرجةٌ جداً وتنتظرُ تعديلاتٍ جوهريّةً لهيئةِ تحرير الشام والتي تشكّل النصرةُ عمودَها الفقريّ، والمطلوبُ تعويمها لشطبها عن لوائحِ الإرهاب، وبهذا فالهيئةُ أمام اختبارِ التخلّي عن النظريةِ الجهاديّة. والتحدّي الآخر هو المجاميع المتطرفة مثل حراس الدين وأنصار الدين وأنصار التوحيد و»جهاديو» التركستان والأوزبك والقوقاز وغيرها من حملة الفكرِ القاعديّ.
موقفُ أنقرة صعبٌ ودونه تحدياتٌ كبيرةٌ، وفي إدلب يتوضح أكثر حجم اتكالِ أنقرة على التفويضِ الروسيّ، ومن أجل تجاوز الحرج حاول أردوغان استدراجَ الناتو وطلبَ تفعيلَ منظوماتِ باتريوت، كما استجدى واشنطن ولكنه لم يلقَ الاستجابة. واتضحَ أنّ أنقرة رغم قوتها العسكريّة لا تستطيعُ تجاوزَ موسكو وواشنطن كليّاً، وهذا ما يضعُ أردوغان أمام الاختبارِ الأصعبِ، فراح يستغلُ الهدنةَ الأخيرة لتعزيز الوجود العسكريّ التركيّ واعتبار من الهدنة الأخيرة تم إدخال نحو 3 آلاف آليّة تركيّة، وسعى لفرضِ حظرٍ جويّ عبر منظوماتِ صواريخ دفاعٍ جويّ، فيما لا يمكنه تفعيلُ منظومةِ الصواريخ الروسيّة أس-400 التي كانت محلَّ الجدلِ. وبعبارةٍ أخرى إدلب هي ميدانُ التصعيدِ لتحصيلِ رصيدٍ تصرفُه أنقرة في المناطقِ التي تحتلها في شمالِ سوريا.
الحلُّ هو العملُ بمقتضى الانتماءِ الوطنيّ
على أنّ السوريين لا يمكن اختزالهم بهياكلَ وتشكيلاتِ معارضة ما عادت تمثلُ نفسَها، وهناك بالمقابل بقيةُ السوريين على امتدادِ المناطق الخاضعةِ لسيطرةِ دمشق، إلا أنّ موقفهم سواءٌ على المستوى الشعبيّ أو الرسميّ لم يرتقِ إلى التقييمِ السليم للحدثِ فتجاهلته. ويبدو أنّ السوريين سيتأخرون كثيراً ليكتشفوا عُمقَ الشروخِ الفاصلةِ بينهم على كلِّ المستوياتِ ودرجةَ الخطرِ التي تهددُ الكيان الوطنيّ.
المسلحون في عفرين وسائر المناطق المحتلة لا فائدةَ للحديثِ عنهم وتوجيه أي نوعٍ من الخطابِ إليهم، فقد تحوّلوا إلى أدواتٍ تركيّةٍ، وكلُّ أداةٍ مصيرُها الاستهلاكِ، وهم رهنُ إشارةِ أنقرة التي أعادت صياغتهم فيما يُسمّى «الجيشَ الوطنيّ» وضمّت إليهم الفارين من بقايا داعش والمنشقين عن النصرة.
في ظل هذه الظروفِ وفيما ينشغلُ العالمُ بتداعياتِ انتشار وباء كورونا، جاء تفجيرُ عفرين ليدقَّ أجراسَ الخطرِ، ولتراجع كلُّ الأطرافِ السوريّة حساباتها ويّطرحُ السؤال عن المآل والدور التركيّ وقضايا النزوحِ واللجوء؛ فالسوريون كلهم مطالبون بالعملِ وفق مقتضياتِ انتمائهم الوطنيّ وتجاوزِ الشعاراتِ المهترئةِ لإنهاءِ الصراعِ الدمويّ الذي دخل سنته العاشرة. والأخطار الوجودية على درجةٍ واحدةٍ من الأهميّة، فالتخوف من وباءِ كورونا لن يغطيَ على جرائمِ القتلِ والإرهابِ.
الكُردُ على وجهِ التحديدِ يترتبُ عليهم القيام بمراجعةٍ تفصيليّةٍ لكلِّ المساراتِ والمواقفِ الدوليّةِ وتجاوزِ خطاباتِ الكراهيةِ التي تصدرُ من بعضِ الأبواقِ الشوفينيّةِ العنصريّةِ وعدمِ الانشغال بها؛ وقد رأينا أمثلة كثيرةً منها على طولِ مسار الأزمة. وانطلاقاً من أنّ العملَ السياسيّ يشملُ جملة المساعي لإيجادِ خياراتٍ بديلةٍ، فإنّنا نعتقدُ أنّ البدائلَ السياسيّةَ متوفرةٌ استناداً إلى الرصيدِ المجتمعيّ وإرادةِ شعبنا وحقّه بالحياةِ الكريمةِ، والمطلوبُ المبادرةُ بتوحيدِ الجهودِ وفقَ البوصلةِ الوطنيّةِ واستثمارِ الوقتِ، فانتظار حلّ مستوردٍ ينطوي على مضيعةِ الوقتِ ولن يراعي مصالحنا الجوهريّةٍ.