سنوات وتعم منطقتنا ظاهرة الألقاب والمسميات التي باتت بحكم المقدسات مع أن محاكاة العقل في شؤون الخلق والخالق ليس كفراً ولا حراماً بآراء المفسرين والفقهاء، فيما التطرق لبعض تلك القامات الوطنية والقومية أو الحزبية والدينية مع جل الاحترام لها ما لم تتفق وآراء مناصريهم تغدو بحكم الكبائر والمحرمات، وصكوك الوطنية والخيانة التي تنحصر صلاحية إصدارهما قانوناً بمحاكم متخصصة وفي حالات خاصة ونادرة جداً، لكن في الحروب والأزمات تنتزعها تجاوزاً وتوزعها جزافاً بعض الأحزاب والميليشيات، ومعه فإن السير بعكس التيار وعدم مجاراته أو وضع النقاط على الحروف من قبيل النقد البناء أو التعاضد لإعادة الأمور إلى نصابها تبدو محفوفة بالمخاطر وليس من السهولة بمكان… مقدمة كان لابد منها تحاشياً للتأويل أو الاتهامات.
إن الاهتمام الاستثنائي بقائد قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مظلوم عبدي ومناداته بالجنرال وتقديره من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها دونالد ترامب، من باب الوفاء للصداقة وتقديراً للانتصارات الباهرة التي حققتها تلك القوات بقيادة الجنرال في مقارعة الإرهاب ودحر تنظيم داعش الإرهابي والقضاء على دولته المزعومة بدعم وإسناد جوي أمريكي… لم يثن الرئيس ترامب عن إعطاء الضوء الأخضر لتركيا باجتياح مناطق كري سبي/تل أبيض وسري كانية/رأس العين، في وقتٍ غابت فيه نداءات هولير كما حصل أثناء غزو داعش لكوباني وتهديدات قنديل لتركيا كما حصل قبيل غزوها لعفرين. فما الغرابة من أن يكون هذا التقدير والاهتمام لغرض في نفس يعقوب كما يقال حيال مقاتل كردي نذر نفسه لقضية آمن بها إن أتفقنا معه في توجهاته أو كنا مختلفين.
وحدة الصف الكردي مطلب شعبي واستحقاق نضالي تتبناه معظم الأحزاب الكردية على الساحة السورية لكنها تتفاوت في مدى جديتها لتحقيقها انطلاقاً من أجنداتها وارتباطاتها، مع أنها وسيلة وليست هدفاً، والاعتقاد السائد لدى الكثيرين أنه بمجرد إنجازها تتحقق الحرية والانعتاق من الظلم التاريخي على شعبنا الكردي هو ضرب من الخيال، لكنها خطوة لا بد منها على طريق توفير العامل الذاتي الأكثر قدرةً على خلق الظروف الموضوعية الضرورية لانتصار أية قضية وطنية او قومية عادلة، ومن هنا تبرز أهمية أية جهود تنصب بهذا الاتجاه ومنها دعوة/مبادرة الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية التي نتمنى أن تتكلل بالنجاح، مع ما يكتنفها من ضبابية وثغرات أثارت الكثير من التساؤلات.
فأية مبادرة بمثابة خارطة طريق يفترض أن تحمل في طياتها جملة من الأسس والمبادئ لاعتمادها في إصلاح ذات البين وتطبيع العلاقات بين طرفين متنازعين أو أكثر وصولاً لصيغة مشتركة أو إطار عام باتفاق كل الأطراف. فهذه الأمور غير المعلنة بورقة عمل رسمية من جملة ما تقدم بها الجنرال وخلوها من توجيه دعوات رسمية للأطراف المعنية لا تفقدها قيمتها ولا تقلل من أهميتها وإن اختلطت الأمور على المتتبع إن كانت الدعوة/ المبادرة للمجلس الوطني الكردي (أنكسة) ولحركة المجتمع الديمقراطي (تف- دم) بمؤسساتها المتعددة كما فهمها البعض، أو للأطر والأحزاب الفاعلة، أم لكل الأحزاب والتنظيمات الكردية التي ظهرت على الساحة السورية إبان أزمتها المستفحلة دون مبررات، كما لم تُتبع الدعوة بعد إجراء لقاءات عديدة بخطوات عملية لإنجاز ما هو مطلوب لتكتسب درجة مبادرة بإمكانها أن ترى النور ببعض الإجراءات التمهيدية.
فلتكن… لا هذه ولا تلك! ما الضير من أن تكون وقفة مقاتل مع الذات كصحوة نسر أو طير حرّ ينتف بريشه وينهش من لحمه في غفوة من غدر الزمن أو صرخة مظلوم في لحظة خذلان ليس من غدر العرب وإيران وحسب، ربما من أقرب المقربين سواءً كانوا من بعض الكرد أبناء جلدته أو من (أصدقائه) الأمريكان – حلفاؤنا في الحرب على داعش – حيث ما أنفك كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية والخارجية والبنتاغون تكرارها بصريح العبارة، لم نكن نكترث بها أم أننا قبلنا بها على مضض؟! وشتان بين الحليف الاستراتيجي والحليف في الحرب على داعش. ما الغرابة إن كانت كبوة فارس مقدام وصدى لعويل وصراخات آلاف الأرامل والثكالى والأيتام من ذوي رفاقه اللبوات الشهيدات والشهداء وقد أقسموا أن دماء شهدائهم التي قدمت في سبيل قضية عادلة لا ولن يقبلوا أبداً أن تذهب سدى على عتبة المصالح الدولية ووقع الصفقات المخزية لكل من أردوغان – بوتين أو ترامب – أردوغان .
في ظل هذه الظروف الحساسة والمعقدة والمتغيرات التي شهدتها وما تزال شمال وشمال شرق سوريا من جسر الشغور غرباً إلى القامشلي شرقاً وتحولها إلى قطاعات حربية متداخلة تتحكم بكل منها قوى عسكرية متناحرة مهددة بالاشتعال في أية لحظة بعد احتلال (عفرين، كري سبي/تل أبيض، سري كانيه/رأس العين) ووقوع الفأس بالرأس كما يقال، وحالة التشظي والتشرذم في صفوف الحركة الوطنية الكردية والتباين في التوجهات السياسية بين أطرافها المختلفة وغياب موقف واضح وصريح من قادتها حيال ما طرحه الجنرال، والمواقف السلبية والمشككة من قادة المجلس الوطني الكردي، مع تجاهل قادة قنديل دعوة/مبادرة الجنرال، باستثناء التصريح اليتيم من هولير لرئيس إقليم كردستان الداعم والمؤيد لأخيه الجنرال، وبعض الأحزاب الكردية المرحبة، وبعد فشل كل الجهود المبذولة سابقاً لوحدة الصف الكردي وتأطير حركته… هل سينجح الجنرال في مسعاه بمعزل عن دعم قنديل وهولير!؟
ترتيب البيت الكردي في ظل هكذا أجواء – العليقة عند الغارة لا تنفع – كما يقال، قد يبدو بعض الشيء صعب المنال، مع أنه ضرورة نضالية ملحة في ظل أية ظروف، لكن بتوفر النوايا الصادقة وتضافر الجهود الخيرة على قاعدة تغليب التناقض الرئيسي على ما عداه، خدمةً لمسألة جوهرية وقضية عادلة، وفاءً لدماء أكرم بني قومنا، وتكريماً لذوي ألوف الشهداء، لن يكون بالأمر المحال، ويفرض على كل الأطراف تقديم المزيد من الدعم والتأييد كما التنازلات.
بالتأكيد لسنا بوارد خلق حالة من التذمر والإحباط لدى أبناء شعب الكردي، لكننا في الوقت نفسه لا نريد لهم العيش في دوامة الأحلام الوردية والأوهام، وما ارتأيناه وضع الأمور في سياقاتها الموضوعية، لما يتداوله الشارع الكردي حول ما طرحه الجنرال انطلاقاً من الواقعية السياسية المفترضة، وتبقى العبرة كما الحكمة في النتائج لا التسميات، وأن تأتي متأخرة خير من أن لا تأتي أبداً كما يقال، فإن إنجاز وحدة الصف الكردي وإن كانت بمشاركة الأطراف الفاعلة وعلى أساس برنامج الحد الأدنى هو أضعف الإيمان وأهم بكثير من كل ما قيل أو يقال.