القسم العاممختارات

دور الزراعة والرعي في رسم الخارطة السكانية للجزيرة الفراتية

د.آزاد أحمد علي

مجلة الحوار- العدد 74- عام 2020

من الأهمية أن نولي قضايا البيئة والزراعة ودرجة توفر المياه في منطقتنا حقها ودورها الكبير في صياغة شكل الاجتماع ورسم مسارات التاريخ نفسه. حيث تشير المعطيات التاريخية والخارطة الأركيولوجية لعصور ماقبل التاريخ في الشرق الأدنى، جنوب غربي آسيا ولشرق البحر المتوسط تحديدا، أنه تأسست بالقرب من سفوح جبال طوروس وزاغروس وسنجار أولى التجمعات البشرية المنظمة، التي مارست الزراعة وتدجين الحيوانات. بدلالة الآثار العديدة التي ظهرت فيها وكذلك الأدوات التي تم استخدمها، ويشير عالم عصور ما قبل التاريخ جاك كوفان بخصوص هذا الانتشار الحضري والاستقرار القروي الزراعي: “بالدرجة الأولى تشكل في آن واحد القوس الشمالي للسهول الشمالية العليا من بلاد الرافدين وسفوح زاغروس العراقية المنطقة الملائمة للزراعة الجافة بقدر ملائمة النواة المشرقية، والسهوب شبه الجافة التي يزداد قحلها كلما نزلنا بإتجاه الجنوب. ويشكل هذا الجفاف حاجزا أعظميا أمام الحياة الحضرية… ان وثائقنا حول هذا الانتشار تتعلق بالفترة التي تهمنا خلال الحقبة (7500- 6300( قبل الميلاد… ان اختلاف الشروط المناخية من منطقة لإخرى يترافق بسلوك تأقلمي مختلف: وهكذا فسنجد في هذه المنطقة حضريين كما ورعاة رحل.”[1] ويتابع كوفان سرده لرواية الثورة الزراعية في الجزيرة الفراتية: “حاليا فقد كشف مؤخرا السهل العالي المحيط بجبل سنجار، بشكل أكثر وضوحا في قرميزداره وفي نمريك عن موروث باليوليتي انتقالي يعود للفترة )7600 – 9500( سنة قبل الميلاد…وكما في المشرق، فان صيادين قاطفين حضريين منذ الألف الحادي عشر ق. م، كانوا يعيشون في قرى إنما كانوا أصحاب كفاءات معمارية أعلى بشكل أوضح من كفاءات النطوفيين[2]… وفي منطقة سنجار نفسها، وقريبا جدا من مغزلية ويليها مباشرة، يأتي موقعان، سوتو وكول تبه، وهما أصل الثقافة العراقية المسماة حسونة ويليان مباشرة عام 7000 قبل الميلاد. ويمكن أن نقرن بهما قرية أم الدباغية الواقعة إلى الجنوب أكثر، وهي موجودة أصلا في منطقة جافة. ويشكل مجموع هذه المواقع الثقافة المسماة أم الدباغية – سوتو حيث كان الخزف موجودا منذ ذلك الحين كما في الشرق الأدنى كله أو يكاد.”[3]

فجذور الحياة القروية موغلة في القدم، وقد تكون بحسب كوفان منطقة السهول المحيطة بجبل سنجال والهضاب الشمالية لها أحد أول الينابيع العمرانية الريفية الاجتماعية المستقرة والمستدامة على وجه الكرة الأرضية.

ترجح مجمل الدراسات ذات الصلة بأن نشاط المجتمعات الزراعية المستقرة قد تركزت شرق نهر الفرات باتجاه سهول الجزيرة الفراتية حتى مشارف سفوح جبل سنجار الجنوبية، حيث تكيفت هذه المجتمعات مع البيئة الجغرافية وتنظمت حركة المجتمعات البشرية الأولى شرقا وغربا، شمالا وجنوبا لتأمين شروط أفضل للتكيف مع البيئة الحاضنة للمجموعات البشرية الأولى، وذلك قبل حوالي (15000) خمسة عشر ألف عام. ولقد أسست كري نافوكي (Girê Navokê – كول تبه)  بالقرب من أورفا لمجتمع أكثر تنظيما وتماسكا واستمر لآلف السنين حتى انتقل مركز ثقل هذه المجتمعات، وربما عاصمة مملكته من الغرب قليلا نحو الشرق نحو منابع نهر الخابور بجوار مدينة رأس العين حاليا، في موقع عرف بتل حلف. حتى بلغت هذه المجتمعات المنظمة أوج ازدهارها في أواسط الألف السادس ق. م الميلاد.  لقد أسست المجتمعات المنسوبة لتل (حلف) أول وأهم مجتمع زراعي واسع ومنظم[4]، كذلك منتج للفخار في الحقبة الواقعة بين (5500-6000) ق.م. ولقد تمددت بإتجاه سفوح جبال سنجار فزاغروس، واكتشفت أهم المواقع التابعة لهذه الحضارة الزراعية الواسعة الأولى في مواقع محيطة بجبل سنجار مثل (يارم تبه وتبه كاورا) وكذلك موقع حموكار الذي يقع  في سهول شمال جبل سنجار.

  • التلال الأثرية

ان كثرة التلال الأثرية تعد أحد أهم الدلائل الحسية على وجود مجتمعات منظمة في العهود القديمة. لذلك واعتمادا على حقيقة هذا الجذر الحضاري العميق يبدو أن المنطقة قد ورثت كثافة سكانية ومجتمعا زراعيا منظما، مرتبطا بالأرض منذ تلك الأزمنة الموغلة في القدم وصولا إلى المراحل المتأخرة. حتى في العهود التي تعرضت أطراف هذه السهول والسفوح للغزوات العابرة وللحكم الإمبراطوري الوافد، حافظت على كثافتها السكانية. هذه الكثافة التي كانت تزداد وتتراجع بحسب جملة من الظروف. لكن من المؤكد أن سهول الجزيرة الفراتية كانت موطنا لحضارات متعاقبة، منبثقة من جذورها المجتمعية العميقة.  إذ كان عماد وجوهر هذه الاستمرارية الحضارية متجسدة في وجود مجتمعات منظمة مرتبطا بوفرة الماء وانتشار الزراعة. فقد أشار الى ذلك العديد من علماء الآثار ودارسي تاريخ المنطقة، فقد تطرق لخصوصية منطقة شمال الجزيرة السورية المؤرخ الأكاديمي الدكتور جمال رشيد أحمد: “في الواقع، فان إقليم الجزيرة الواقع شمال شرق سورية إشتهر منذ فجر التاريخ بمستوطناتها الزراعية التي سجلت أخبارها في الألواح الحثية والبابلية القديمة، وكان من أشهرها مستوطتنة نيلابشينو ويمكن قراءتها ليلابسينوم المعروف الآن بتل براك، وكان طبوغرافيا في اتصال مباشر مع كل من مملكة أوركيش الحورية التي نشأت في وادي نهر الخابور ومقاطعة أشناككوم (شهربازار) وكخات (تل بري)، وكلها كانت تحيط ببلاد عرفت في هذه الألواح ببلاد الكورد ((mat Kurdaki التي شملت الأراضي الواقعة على نهر الخابور بشمال الحسكة ووادي عامودا وتل أسود.”[5] وكذلك سهول المحيطة بنهر جغجغ.

لكن ومع تعاقب الحضارات والمتغيرات البيئية تأثرت كل هذه المواقع  بالخراب البيئي، وخاصة الجفاف. في حين ظلت مناطق شمال خط جبل سنجال – جبل عبدالعزيز متمتعة بوفرة كبيرة في المياه، وبالتالي منتجة للمحاصيل الزراعية. لقد أثر الخراب البيئي والجفاف، وبالتالي زحف التصحر بشكل رئيس على توزيع السكان ضمن كامل مساحة الجزيرة الفراتية.

ان وفرة الأرض السهلية القابلة للزراعة والرعي في الوقت نفسه بمساحات واسعة شكلت كثافة سكانية فانتظام اجتماعي مبكر، تبلورت في تجمعات ريفية وحضرية، فأغلب التلال الترابية الاصطناعية الحالية في الجزيرة السورية ناتجة عن تراكم مباني قديمة مشيدة من اللبن الطيني، وغالبا ما تم اعادة البناء فوق الأنقاض القديمة، حتى برزت عن سطح الأرض المستوية. ما يهمنا في المقام الأول ان وجودها دليل اساسي على استمرارية وتعاقب الحياة الاجتماعية في هضاب وسهول الجزيرة الفراتية. وهذا ما أثار انتباه العالم الأثري الألماني ماكس اوبنهايم عند مروره في سهول الجزيرة عام 1899م: “وتذكر التقارير التي كتبها البلاذري ومن بعده الواقدي عن المعارك التي خاضها الفاتحون المسلمون في بلاد ما بين النهرين عددا كبيرا من أسماء المدن والقرى والقلاع المفتوحة التي كانت واقعة على الخابور وفي المناطق الواقعة الى الغرب منه وتشهد التلال الكثيرة المتناثرة في منطقة الخابور والبليخ وشمال جبل سنجار كأكوام الخلد وكذلك بقايا منشآت الري، على وجود مستوطنات سكنية عامرة في العهود الغابرة وتثبت أهلية الجزيرة للازدهار الحضاري.”[6]

  • الصراع على الغذاء

ان تراكم الثروة وتوافر الخيرات المادية الناتجة من الانتاج الزراعي واستثمار الحيوانات وتدجينهما جعلت من سهول وهضاب الجزيرة الفراتية (جزيرة آقور) هدفا للغزاة وجاذبة للسكان منذ أمد بعيد، كونها سلة للغذاء على حد تعبير المقدسي: “أقليم آقور هذا أيضا إقليم نفيس ثم له فضل… ثم هو ثغر من ثغور المسلمين ومعقل من معاقلهم لأن آمد اليوم دار جهادهم والموصل من أجل أنضادهم. وجزيرة ابن عمر أحد منازلهم ومع ذلك هو واسطة بين العراق والشام، ومنازل العرب في الاسلام، ومعدن الخيل العتاق، ومنه ميرة أكثر العراق، رخيص الأسعار جيد الثمر ومعدن الأخيار.”[7] وميرة أكثر العراق تعني أنها كانت تؤمن المواد الغذائية للعراق. نستشف من السرديات التاريخية المتعلقة بالجزيرة الفراتية، أن للعامل السياسي – الإداري فالأمان في السهول دور في التنمية السكانية والاستقرار الاجتماعي للعاملين في الفلاحة. هذه الشريحة المنتجة والمؤسسة لعمران شرق البحر المتوسط منذ فجر التاريخ، فوجودها مرتبط مع جملة من العوامل ومتفاعل معها، بما فيه عامل الثقل الديمغرافي: “لقد تميز تطور المجتمع في المشرق العربي، بالبطء ونلفت الانتباه هنا إلى التأثير السلبي العام الذي أحدثه الوضع الديمغرافي السيئ على تطور القوى المنتجة وما ارتبط به من مؤشرات الأزمة الايكولوجية التي ظهرت في هذه المنطقة في أواخر العصور الوسطى وعلى مشارف العصر الحديث، والتي تمثلت بانخفاض حاد في عدد السكان المؤهلين لفلاحة الأرض وزراعتها وأفسحت المجال أمام تدفق البدو الرحل إلى المناطق الزراعية. نتيجة لذلك أثرت الخصائص التي تميزت بها البنية الاجتماعية في هذه المنطقة على وتائر التطور الاجتماعي والاقتصادي فيها… وظهرت أشكال واسعة من مظاهر إفلاس الفلاحين بين وقت وآخر مما سبب تعطيلا مرحليا لدور القوى المنتجة في الزراعة.”[8]

يجب أن لا نتردد في البحث عن الحقائق التاريخية التي تساهم في توضيح الخط العام لمسار التاريخ في مناطقنا، هذه الحقائق التي لا تؤسس على سرديات تاريخية متوارثة ومستنسخة وانما تعتمد على معلومات منبثقة من تفاصيل الواقع الاقتصادي والاجتماعي وخاصة الاستقرار الريفي وعملية انتاج القوت والزراعة. لقد كان ومازال لحاجات الإنسان الرئيسية الدور الحاسم في صياغة الأحداث التاريخية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وبالارتباط مع العوامل الاقتصادية كانت للمؤثرات البيئية وللحاجات المجتمعية دورا أساسيا في رسم مسار تاريخ المنطقة. لذلك سنرجح هذه العوامل ونربطها بالعوامل الأخرى الثقافية والروحية وأخيرا السياسية.          

لقد “أصبحت منطقة الجزيرة الفراتية من مناطق النزاع ومطمعا للقوتين العظميين فارس وبيزنطة حيث دار الصراع طويلا بينهما وكانت بلدان الجزيرة هي الغنيمة والربح الذي تتحصل عليه القوة الغالبة. ولقد كانت للموارد الاقتصادية التي تمتعت بها مدن الجزيرة أن ساعدت على زيادة المطامع خاصة ثروتها الحيوانية، ومراعيها وأراضيها الزراعية، وما اشتهرت به من صناعات إضافة الى شبكة الطرق التجارية التي تتحكم فيها.”[9]

  • عين تجار قريش على الجزيرة الفراتية

كما تؤكد معظم المصادر التاريخية على أن منطقة الجزيرة الفراتية كانت من أغنى المناطق الزراعية، لدرجة ان استقطبت الفتوحات الاسلامية بخيراتها الوفيرة. ودعمت دولة الخلافة الاسلامية بثروتها التي لم تكن تنضب: “كذلك عدت الجزيرة الفراتية في العصر الأموي واحدة من الأمصار الإسلامية الغنية بمواردها المالية التي وفرتها لبيت المال، فثمة أدلة كثيرة تشير إلى ما كانت تتمتع به الجزيرة من غنى، وما يتصف به سكانها من رفاهية وترف، فيروي ابن أعثم الكوفي أن حصة كل مسلم مقاتل أسهم في تحرير الجزيرة في جيش عياض بن غنم بلغت عشرة آلاف درهم، عدا الماشية والأمتعة…ويذكر الواقدي: أن عبد الله بن غسان حين ارتحل عن قرقيسيا ونزل على ماكسين فتحها صلحًا على أربعة آلاف درهم من نقد بلادهم وألف حمل طعام حنطة وشعير… يمكن ملاحظة هذا الغنى ذلك من حجم الموارد التي كانت تدرها الضرائب السنوية على الأراضي الزراعية للدولة الأموية، فيذكر اليعقوبي مقدار خراج الجزيرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان (٦٧٩ م( بقولهوخراج الجزيرة، وهي ديار مضر وديار ربيعة، على خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وخراج الموصل وما يضاف إليها ويتصل بها خمسة وأربعين ألف ألف درهم. أما ابن حوقل، فيذكر أن نصيبين وحدها كانت تضمن في أول الإسلام 100 ألف دينار.”[10]

هذا ويستنج الباحث الدويكات بأن هذا الكم من أموال الجباية التي كانت تخرج من الجزيرة الفراتية كان حصيلة لنشاط زراعي واسع ووافر، فضلا عن المهن المرتبطة بالفلاحة والرعي: “ومن الناحية الزراعية، كان الإقليم على جانب كبير من الأهمية، ففي ضوء دراسة النصوص التاريخية وتحليلها يمكن القول: إن الجزيرة الفراتية مثلت مخزنًا للمنتجات والغلات الزراعية في الدولة الأموية، وقد أكد احد المصادر السريانية خصوبة أرض الجزيرة، وأشاد المؤرخ السرياني الراهب الزوقنيني الذي كان حيا عام ١٥٧هـ/ ٧٧٤م  بخصوبتها، ووصفها بقوله :أما أرض الجزيرة فكانت كثيرة الخيرات، والحقول غنية بالكروم والمزروعات الأخرى، أما من جهة الغنى بالأموال والميرة؛ فلم يكن فيها فقير أو بائس واحد، فجميع أهل القرى مترفين، وكل فرد منهم يملك فدانا من الأرض مع الماعز والحمير، ولم تكن قطعة واحدة من الأرض خالية، بل جميعها مزروعة بالحبوب والكروم، حتى أن سطح الجبل كان مزروعا بالكروم والأشجار الأخرى، خاصة الأماكن التي لم يكن بالإمكان حراثتها وزراعتها بالحبوب. أما المصادر الإسلامية؛ فتجمع على خصوبة أرض الجزيرة، وما تميزت به من موارد اقتصادية متنوعة ووفيرة، فكانت قريش قبل الإسلام تتحدث عن خصوبة ارض الجزيرة الفراتية، فيذكر الأصمعي: “كانت قريش تسأل في الجاهلية عن خصب باعربايا، وهي الموصل لقدرها عندهم، فلم ينلهم من خصبها شيء، وعن ريف الجزيرة وما يليها؛ لأنها تعدل عندهم في الخصب باعربايا.  وعندما سأل الخليفة عمر بن الخطاب عن الجزيرة وصفت له بأنها خصبة جدًا، وكذلك ما أشار إليه ابن حوقل والمقدسيوكلاهما من أهل القرن الرابع الهجريإلى أن إقليم الجزيرة رفه بخصبه وأن هذا الإقليم منه ميرة أكثر العراق، أما ياقوت الحموي؛ فمع أنه من المصادر المتأخرة إلا أنه يورد معلومات مهمة عن إقليم الجزيرة، وذلك لتنوع مصادره وقدمها، وقد وصف الجزيرة الفراتية في معجمه بأنها، جيدة الريع والنماء واسعة الخيرات. وعليه؛ فقد كانت الجزيرة الفراتية على جانب كبير من الأهمية الاقتصادية، خاصة في مجال الإنتاج الزراعي، مما جعل الخلفاء الأمويين يبدون اهتمامًا خاصًا بالمنطقة بوصفها مركز ثقل اقتصادي للدولة“.[11]

يمكن الترجيح بأن خيرات الجزيرة الفراتية المادية، وفرة المياه والمراعي الواسعة فيها جعلتها مطمعا للغزات، فضلا عن وقوعها على الطرق الرابطة بين المشرق والأناضول فأوربا. لذلك قد يكون من الضروري تكرار الاشارة إلى الحملات وعمليات الغزو المتعاقبة لها، مما جعل أغلب مناطقها غير مستقرة، خاصة مناطق السهول القريبة من ضفاف نهري الخابور والفرات فضلا عن تعرض التجمعات السكنية والقرى على جوانب الطرق العامة لتخريب متكرر عند اجتياح القوات الغازية أو حتى جيوش الامبراطوية التي تحكم البلاد نفسها. فقد ظلت الجزيرة الفراتية ساحة للصراع الايراني – اليوناني فالروماني البيزنطي.

وبعد دخول الجزيرة الاسلام استمرت في غناها الانتاجي وظلت رصيدا اقتصاديا ودعما لخزينة الدولة كما سبق ذكره، لكنها همشت وتعرضت للتفتيت الجغرافي بناء على توزع مراكز الادارة فيها، وكنتيجة للصراعات الداخلية بين مراكز الحكم المحلي وتناحر الحكام.

لكن أسوأ ما تعرضت الجزيرة لها الى جانب التدهور البيئي، كانت غزوات القبائل القادمة من أواسط آسيا، بدءا بمطلع الأف الثاني للميلاد، مما أثر بعمق على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والزراعة، وبشكل خاص تم تخريب القرى المستقرة في السهول. فقد تعرضت هذه المناطق السهلية المكشوفة بشكل مباشر لأولى غزوات التركمان المدمرة: “منذ سنة 1185م ابتدأ الحرب الذي أثاره الشعب التركماني، واستمر ثماني سنوات، وهم يعيثون في مناطق كثيرة تخريبا وتهديدا وذلك في أرمينيا وبلاد آشور وما بين النهرين وسوريا وقفدوقيا (كبدوكيا).”[12]

وسبب ذلك أن الأكراد كانوا ينهبون التركمان ويقتلون منهم خلقا كثيرا وهم يشتون في برية سورية الجنوبية. فقتل التركمان نحو مئتي رجل من الأكراد، في المناطق المتاخمة لحدود ماردين. وتحارب الجانبان، واجتمع الأكراد في منطقة نصيبين وطور عبدين زهاء ثلاثين ألف مقاتل، وكذلك التركمان تجمعوا في منطقة الخابور، وعند التقاء القوتين بحرب طاحنة انهزم الأكراد شر هزيمة، فأعملوا فيهم السيف حتى فني الجنس الكردي من كل سورية وما بين النهرين.  والتركمان لم يكونوا يؤذون المسيحيين في السنوات الأولى لحكمهم، ولكنهم بعد ذلك راحوا يعيثون فيهم قتلا وتخريبا. حتى اندحر التركمان ايضا نتيجة لحروب طاحنة مع حكام المنطقة السابقين، وحينئذ هدأت العاصفة.”[13]

  ثم تتالت الهجمات والغزوات على السهول والبراري التي كان يقطنها الفلاحون ومربي الأغنام الأكراد، حتى شكلت غزوات تيمورلنك بين أعوام (1398- 1405) م بداية الخراب الكبير لمجتمعات سهول الجزيرة الوسطى والدنيا، فقد تأثرت بها مناطق شبه محصنة. هذا وكان لحكم الجماعات الغازية التركمانية لاحقا، طوال قرن من الزمان بين أعوام (1411-1515) م على أجزاء واسعة من الجزيرة الفراتية، أيضا دور سلبي في عدم الاستقرار الحضري، إذ تسببت في خراب الحياة الفلاحية واندثار العديد من القرى والبلدات.

لقد كان الغزو المغولي وبالاً على الجزيرة الفراتية، بل مرحلة فاصلة لعهدين. حيث شكلت غزوة المغول الأولى عام 1224م بداية الخراب العمراني في الجزيرة الفراتية، قتل إبانها مئات الألوف من أبناء الجزيرة والعراق وبلاد الشام خاصة في عام 1253م، وتم تخريب العديد من القرى والبلدات. وقبل أن ينتعش الوضع الاقتصادي سنة 1380م اجتاح تيمورلنك أواسط آسيا. ووصل سنة 1393 إلى إيران والجزيرة الفراتية ومنها إلى بغداد. وقد أصاب الجزيرة الفراتية البلاء الأعظم على يد هذا الغازي، فقد شرد سكانها، وأنزل الخراب بديارها. فصارت منذ ذلك الحين برية قفراء[14].  اضافة الى نتائج الحرب المغولية والتدهور البيئي التدريخي الذي أصاب سهول الجزيرة، فمن المعتقد أن الجزيرة الفراتية كانت بعد ذلك الخراب موضوعاً لتنافس الدولتين الصفوية والعثمانية، ولم تستقر الأوضاع فيها نسبيا، إلا بعد أن استولى عليها العثمانيون سنة 1516م ودخلت ضمن نطاق حكمهم. كما تشير بعض المصادر إلى أن موجة من الجفاف الشديد قد ضربت الجزيرة الفراتية في القرن الثالث عشر لتساهم مع غزوات المغول في نسف البنية الحضرية التي تأسست وتطورت طوال قرون عديدة. إلى أن استقرت الجزيرة الفراتية تحت الحكم العثماني (1515 – 1920) م. وعلى الرغم من سلبيات العهد العثماني، الا أنه وبسبب تحول ولاية دياربكر الى ما يشبه الدولة المستقلة، وكذلك منح منح بعض الإمارات الكردية وخاصة امارة بوتان في كوركيل وجزيرة ابن عمر حكما ذاتيا فقد ساد الاستقرار الريفي العديد من المناطق، خاصة جنوب شرق نصيبين باتجاه سهول شمال سنجار ومنطقة آليان، فضلا عن تشكل الحلف القبلي الملي الذي حمى وأدار معظم مساحة الجزيرة الفراتية بصيغة توافقية بدءا من منطقة جبل كوكب والخابور وحتى مدينة الرقة طوال عدة قرون.

فبقدر ما كان العهد العثماني امتداداً للعهود الإسلامية التي سبقتها من حيث آليات الحكم، كان في الوقت نفسه مختلفاً عنه من النواحي  الادارية والعمرانية. فقد ورث العثمانيون عن الحكم المملوكي الاهتمام بالمدن، ومن العهد الأيوبي الاهتمام بالجيش والحروب. خاصة إذا علمنا أن هدف القادة العثمانيين انصب نحو خارج المملكة أي طموح فتح المزيد من أقاليم أوربا. وللسببين الآنفين نجد أن الجزيرة الفراتية قد تم إهمالها سياسيا، وتم بشكل خاص نسيان تلك الأصقاع الواسعة والبعيدة الواقعة في سهول شمال شرق سورية الحالية. إذ لم تكن هذه المنطقة تحتوي على مدينة كبيرة لكي يتم الاهتمام بها، كما لم تكن ثغراً من الثغور[15] أو جبهة من جبهات الحرب في الدولة العثمانية آنئذ.  بعد الخراب الذي لحق بالجزيرة الفراتية نتيجة الاجتياح المغولي وتراجع عمرانها بشقيه الحضري والريفي. وبعد مرور عدة قرون من الإهمال الإداري العثماني سادت سهول الجزيرة البداوة، وتراجعت فيها الزراعة تماما، وظل الرعي هو عماد اقتصادها ومصدر رزق سكانها الأساسي. ولقد كانت  لهذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مجتمعة الدور الرئيس في صياغة نمط عمرانها وآلية تطور مجتمعاتها في المحصلة. فقد انسحبت القبائل الكوردية الرحل تدريجيا نحو الشمال، عاما بعد آخر أمام زحف وتمدد القبائل البدوية الرحل القادمة من قلب الجزيرة العربية. حيث انسحبت أغلب القبائل الكوردية لتهتم أكثر بزراعة الأرض وتستقر قرب ينابيع المياه العذبة، أو على ضفاف أعالي الأنهر، وبالتالي تحدد وتقصر من مسافة دورة الرعي والسير بقطعانها من مئات الكليومترات الى العشرات.

يذكر هيمسلي لونكريك بهذا الصدد “على أن أهم حادث في هذا القرن هو هجرة شمر، فلا يخفى أن تاريخ العالم العربي هو تاريخ موجات بشرية متتالية تحركت من قلب الجزيرة العربية، وان هذه الموجات هي سبب وجود القبائل العربية في العراق. وعلى هذه الشاكلة جرت هجرة قسم كبير من عشيرة شمر في 1640م (1050هـ) من نجد إلى الشمال، وكان قائدهم الشيخ فارس. كما هاجرت قبيلة شمر من غرب الفرات نحو شرقها تحت ضغط قبيلة عنزة حوال عام 1800م “[16]

لقد شكلت مجموع الغزوات السابقة الذكر وغيرها مما لا يتطلب اغراق هذا البحث بتفاصيلها وكذلك المتغيرات السياسية والإدارية عوامل معرقلة للتنمية العمرانية الريفية فالزراعية والسكانية. لكن ظلت الجزيرة العليا – حسب المصطلح الراهن، الذي يمكن توضيحه وتوصيفه على أنه الأرض الواقعة شمال خط النظر من جبل سنجار شرقا، فجبل كوكب وجبل عبد العزيز، حتى هضاب شرق الفرات قرب قلعة جعبر غربا – منطقة عامرة نسبيا ومنتجة للغذاء. إستقرت فيها مجتمعات زراعية مترابطة ومتجذرة. لكنها كانت تنكمش وتتقلص جغرافيا نحو الشمال تحت ضغط الغزو القبلي والتصحر فالجفاف وهجمات الجراد. في نهاية المطاف تحولت العديد من القرى الى خرائب، خاصة نهاية العهد العثماني، الذي اثار انتباه الرحالة الأوربيين فأشاروا الى هذه الظاهرة. وأحد هذه المشاهدات تسجل ذروة الخراب العمراني والانكماش العمراني الزراعي الريفي في سهول الجزيرة العليا مطلع القرن العشرين، كنتيجة للخراب البيئي وعدم الاستقرار السياسي فالاداري: “المسافة بين نصيبين والموصل شرقا تبلغ مائة وعشرين ميلا يقطعها المسافر في يباب قفر وصحراء مترامية الأطراف يعرفها الناس هناك بإسم الجول. وانت لا تمر بموضع مأهول ثابت طوال رحلتك التي قد تمتد اربعة أيام أو خمسة حسب أحوال الطريق وعوارض السفر… وليس الجول[17] صحراء رملية مثل الصحراء الافريقية، بل هي أرض قاحلة يمكن أن تعاد إليها خصوبتها وتصير قابلة للزراعة ببذل مجهود يسير، يغطيها عشب خفيف ودغل قصير ضعيف النمو وحسك مهيب الارتفاع. إن الزراعات اليسيرة المتباعدة التي كان الناس يمارسونها في أطراف منها تؤيد أن إعادة تنظيم ري المنطقة سيجعلها من أعظم مصادر الغلة في الدنيا… ففي طول هذه البادية وعرضها تجد تلالا ضخمة بين الواحد والآخر مسافة ستة أو سبعة أميال، توجد تلال ترابية شماء يبلغ حجم الواحد منها حجم تل سلسبوري. اما الغرض من استحداثها فمازال موضع اخذ ورد طويلين. ربما جعلوها اضرحة للملوك وعظماء القوم فيهم، او ربما كان يقوم فيها حصن القرية. أو لعلها من قبيل المواضع المرتفعة التي تستحدث لإقامة مراسيم التقريب الدينية. ومهما كانت اساليب اقامتها فمن الواضح ان جهدا خارقا بذل في سبيل انجاز هذا العمل. ومن المؤكد أن كل سكان هذه البادية اليوم لا يكفون لاستحداث تل واحد منها. وهي الآن بمثابة علائم الطريق تعين المسافر على تتبع خط سيره الصعب الاستهداء في خط الافق. والآن يستعمل بعضها مقابر، ولعل مبعث هذا الشعور الغامض بأنها كانت مواضع دينية في سالف الزمن.”[18]

هذا الوصف والمشاهدة لسهول الجزيرة العليا تعود على الأرحج  لسنتي 1911- 1913م، حيث نشر المستكشفان ويكرام بعض أجزاء رحلتهم عام 1914م، ويدعيان بأن كتابهما جعلت من بريطانيا تهتم أكثر بالمنطقة.

  • البداوة تواجه الزراعة

ان الدافع الرئيسي لحركة القبائل شمالا كانت طلبا للماء والمرعى، حيث كانت تتعرض لمشاكل متأتية من قساوة المناخ قبل أن تأتيهم من المجتمعات الريفية المستقرة. فلم تتمكن عدد من القبائل البدوية العربية من التعمق شمالا نحو سفوح الجبال لأسباب مناخية واجتماعية فثمة رواية لحدث عارض مطلع القرن العشرين يوحي ويفسر أهمية دور العوامل البيئية قبل السياسية والاجتماعية في استقرار وتمدد البدو شمالا، رواها ويكرام في كتابه مهد البشرية: “أما الزوابع الثلجية فتأتي في النهاية الثانية من قائمة المخاطر الناجمة عن المناخ. فشتاء 1910- 1911 القاسي غير المألوف جاء مصحوبا بعاصفة ثلجية شديدة وهي ظاهرة نادرة جدا وقد دفن جماعات كثيرة من العربان تحت خيامهم فهلكوا بردا وجوعا قبل ان تتاح لهم فرصة النجاة. وحدثنا كردي متجول كيف أنه وقع على خيمة منكوبة بهذه الصورة بعد مرور العاصفة بها. وكان مبعث شكله الأول في حصول أمر غير اعتيادي لأهلها أنه لم يتعرض لهجوم كلب أو انسان ولما دنا من تلك الخيمة وأخواتها وجدها ملأى بالموتى الا مهرة وعجوزا. فأخذ المهرة وترك العجوز لأنها كانت تعالج سكرات الموت. ثم أردف يقول حزينا: أن المهرة نفقت ايضا قبل أن أصل بها إلى قريتي.”[19]

لقد سبق الاشارة إلى التحولات الديموغرافيةالاجتماعية العميقة   التي كانت قد بدأت مباشرة بعد غزوات التركمان والمغول التي دمّرت معظم عمران الجزيرة. وتراجع في ربوعها الأمان، كما انهارت تدريجاً النظم الاجتماعية والسياسية والمراكز العمرانية المحلية في الجزيرة الفراتية سنة بعد أخرى، لتتحول إلى منطقة شبه خالية من السكان خلال خمسة قرون تقريبا (15-19)، إذ اقتصرت حياتها الاجتماعية على الرعي والبداوة، وتعلقت حياة السكان عضويا بوفرة الماء، لذلك اقتصرت الحياة الاجتماعية على ضفاف الأنهر وخاصة الخابور والفرات في الجزيرة السفلى، وذلك وفق الكثير من الوثائق، الروايات الشفاهية ومشاهدات الرحالة الموثقة.

هذا التراجع الديمغرافي والعمراني في البادية وعلى ضفاف الفرات أعادت تأكيدها لاحقا آن بلنت: “كان الفرات في الأزمنة الغابرة وحتى خلال الخمسمائة سنة الأخيرة مقاطعة زراعية غنية، إذ كان يزود سكانه الذين يعيشون على ضفافه سكان المدن بالغلال والمحاصيل الزراعية. وخلال قرنين من الزمان يمكن أن نقول بأنه لم يوجد أي محراث أحدث أخدوداً على شطآن الفرات. فالحقول قد هجرت وتحولت إلى مراع للبدو، بينما الأراضي المنخفضة التي هي معرضة للغمر السنوي قد أصبحت أدغالاً من أشجار الطرفاء”[20].

  • خلاصة ونتيجة أولية

جملة من العوامل قد ساهمت في توزيع السكان، شكل استقرارهم ونمط حياتهم في الجزيرة الفراتية كما سبق ذكره. فمن خلال متابعة التحولات والمتغيّرات في طبيعة السكان ونمط استقرارهم ومعيشتهم، التي حدثت لاحقاً في الجزيرة الفراتية، ودراستها وفق مصادر متأخرة، ومن خلال  تحليل  سرد ووصف العديد من الرحالة ومشاهداتهم، نرى أن التصحُّر والتدهور البيئي والاضطرابات السياسية كانا قد دفعا بالكثير من القبائل العربية إلى عبور نهر الفرات والتوجه شمالاً نحو أراض أكثر ماءا وخصوبة، وربما أماناً مع وفرة وفائض كبير في المياه والمراعي. وهذا ما هيّأ المناخ لتحولات ديمغرافية واجتماعية جديدة، إذ تشجع قسم من السكان الأكراد في الجزيرة إلى التعايش والاندماج مع الآتين من عرب الجزيرة العربية واليمن، خصوصاً في البلدات والمدن، كدير الزور والرقة، إضافة إلى انزياح وتراجع القسم الأعظم من القبائل الكردية الرحل نحو المناطق السهلية في أعالي الجزيرة الفراتية، للاستقرار على سفوحها، وتحقيق المزيد من الاستقرار الريفي فالكثافة السكانية في تلك السفوح الجبلية والسهول الملاصقة لها. حتى باتت المناطق السهلية الجنوبية المعروفة بالبادية خالية من الحياة الزراعية والفلاحية،  إذ لم  تعد هنالك شريحة فلاحية في سهول الجزيرة السفلى وعلى ضفاف الفرات، أو حتى عدد قليل من العائلات تعمل في الزراعة بشكل حصري ومهني طوال عدة قرون، إلا أن بدأ العمل على إعادة التوطين والأعمار في الجزيرة السورية نهاية العهد العثماني ومطلع مرحلة الانتداب الفرنسي. وبالتالي فالعمران المعاصر في الجزيرة الوسطى والسفلى حديث العهد إلى درجة أنه يمكن القول دون تحفظ أن التوزيع والوجود الحالي للسكان، وبالتالي الخارطة الديموغرافية – الاجتماعية الراهنة في سهول وبوادي الجزيرة السورية، عائدة في أساسها إلى السياسات الاجتماعية، القبائلية والسلطوية الحكومية في سورية والعراق بدءا بالثلث الأول من القرن العشرين.

فالعوامل البيئية والاجتماعيةالاقتصادية رسمت الخارطة السكانية قبل العوامل الدينية أو القوميةالثقافية في القرنيين السابع عشر والثامن عشر، في حين تدخلت عوامل سياسية وادارية في توجيه حركة السكان واستقرارهم  لاحقا خلال القرنيين التاسع عشر والعشرين. لذلك يمكن التأكيد أولا على أن المسار العام لتاريخ الجزيرة السورية يعتمد على المتغيرات البيئة والمناخية وينبغي ترجيح ما نتج عنه من متغيرات اجتماعية – اقتصادية قبل الأخذ بباقي العوامل الثقافية – القومية والسياسية الادارية، فالدينية بعين الاعتبار. فسهول الجزيرة تأثرت بما تعرضت له الجزيرة العربية من جفاف وخراب بيئي بشكل مباشر وكذلك ما تعرضت له سهول آسيا الوسطى من خراب بيئي، حيث دفعت هاتين المنطقتين الصحراويتين بموجات بشرية نحو شرق المتوسط وسهول الجزيرة الفراتية عبر الهجرات أو الانزياخات البشرية الكبرى. كما تأثر عمرانها بتفكك الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى بشكل مباشر وحاد في الوقت نفسه.

كما تم إعادة توطينها وتغيير ديمغرافيتها بموجب سياسات كولونيالية بريطانية – فرنسية، فقد قام مارك سايكس باستطلاعات ميدانية وقدم مقترحات لانشاء قرى زراعية في الجزيرة الفراتية مطلع القرن العشرين. كما قامت الحكومات السورية المتعاقبة بتحفيز البدو على عبور نهر الفرات وتم توطينهم ضمن سياسات حكومية ثابته طوال السبعين سنة من عمر الحكومات (العربية السورية)، هذه الدولة السورية التي نشأت حسب (العقيدة القومية الليبرالية) أي على أساس تفضيل العنصر العربي في المرحلة البرلمانية، وهذا ما تفاقم واتخذتها حكومة البعث العروبية الفلاحية نهجا ومفخرة فيما بعد. في المحصلة قامت الحكومات السورية المتعاقبة بتوطين عشرات الآلاف من العوائل العربية في الجزيرة السورية لتحقيق هدفين الأول تعريبها، والثاني تأمين الأرض للفلاحين الفقراء والبدو. لقد كانت هذه العمليات كثيفة لدرجة أن عرب شرق الفرات إعترضوا على هذه السياسات الاسكانية  في مرحلة مبكرة خلال أعوام (1944 -1946)، كما خصصت  أول حكومة سورية أموال طائلة في ميزانيتها (حوالي عشرين مليون ليرة) لبند توطين البدو في سهول الجزيرة. الحكومات.[21]

” مؤتمر حول خلافات البدو على المراعي والاعتراض للسماح بعبور الفرات من الشامية الى الجزيرة أواسط القرن الماضي “

——————————————

[1] جاك كوفان. الألوهية والزراعة، ثورة الرموز في العصر النيوليتي. تقديم: د.سلطان محيسن. ترجمة: موسى ديب الخوري. دمشق -1999، ص267

[2] مرحلة تاريخية في الألف العاشر ق م، تنسب الى موقع بنفس الاسم في فلسطين.

[3] جاك كوفان. مرجع سابق. ص 268- 273

[4]  انظر تفاصيل الزراعة في المرحلة الحلفية  في حوض البليخ في هذا العدد من مجلة الحوار

[5] د جمال رشيد أحمد. ظهور الكورد في التاريخ. أربيل -2005، ج1، ص278

[6] ماكس فون اوبنهايم. من البحر المتوسط الى الخليج. عبر حوران والبادية السورية وبلاد الرافدين. ترجمة: محمود كبيبو. مراجعة وتقديم: ماجد شبر – لندن 2009، ص21

[7] المقدسي. أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. القاهرة 1991. ص 136

[8] ايرينا سميليانسكايا. البنى الاقتصادية والاجتماعية في المشرق العربي على مشارف العصر الحديث. ترجمة: يوسف عطا لله. بيروت – 1989، ص 286

[9] د.عفاف سيد صبرة. الجزيرة الفراتية بين الصراع الفارسي والبيزنطي. القاهرة. ص 88

[10] فؤاد عبدالرحيم الدويكات. الأحوال الزراعية في إقليم الجزيرة الفراتية في العصر الأموي. المجلة الأردنية للتاريخ واللآثار. المجلد 7. العدد 1، 2013. ص 6

[11] فؤاد عبدالرحيم الدويكات. مصدر سابق، ص 7

[12] أفرام برصوم. تاريخ طور عبدين. ترجمة: بولس بهنام. بيروت – 1963. ص 287

[13] أفرام برصوم. مرجع سابق. ص 287

[14] إسكندر داؤود. الجزيرة السورية بين الماضي والحاضر، دمشق 1959، ص 51

[15]  الثغور مصطلح يقصد به في المصادر التراثية، المناطق الحدودية في الدولة العربية الإسلامية. وخاصة تلك التي تكون في مواجهة دولة ليست على وفاق مع دار الإسلام.

[16] هيمسلي لونكريك. اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث. ترجمة: جعفر الخياط – بغداد 1941، ص (104 – 241)

[17] الجول، Çol  كلمة كردية الأصل، تعني البرية أو الأراضي البعيدة عن العمران.

[18] دبليو.أي. ويكرام و ادكار. تي. أي. ويكرام. مهد البشرية، الحياة في شرق كردستان. ترجمة: جرجس فتح الله. ط3. أربيل -2001، ص56

[19] ويكرام. مهد البشرية. مرجع سابق. ص 57

[20] الليدي آن بلنت. قبائل بدو الفرات  عام1878، ترجمة: أسعد الفارس ونضال معيوف.  دمشق 1991، ص ـ407

[21] لمزيد من التفاصيل راجع جريدة البعث 0 العدد 1 /1946

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى