شكل الزراعة في المرحلة الحلفية ضمن وادي البليخ A Model of Halafian Farming in the Balikh Valley (6000-5500) ق.م Peter.M.G.Akkermans
ترجمة: أسماعيل أحمد
باحث في علم الآثار
مجلة الحوار- العدد74- عام 2020
سنحاول إعادة بناء الموارد الأساسية أو استراتيجيات الاقتصاد الحلفي في وادي البليخ، وذلك على ضوء الأدلة البيئية واللقى المصنعة التي تم الحصول عليها عبر التنقيبات المنظمة في موقع السبي الأبيض.
فالتنقيبات التي جرت بين (1986 – 1988) منحتنا كميات ضخمة من العظام والبقايا النباتية، وتم دراسة جزء صغير من هذه البقايا حتى الآن. فالدراسة الحالية تعتمد بشكل جوهري على بقايا عام 1986، والتي تم دراستها من قبل الباحثان (Van Ziestand Waterbolk-Van Rooijen 1989 )، إلا أن هذه الدراسة شملت جزءاً صغيراً من البقايا ولم تتعرض لها بالتفصيل. حيث تم دراسة بقايا المربع (P 14) من قبل الباحث Van Wijngaarden-Bakker 1989، أما البقايا الحيوانية faunal remains والنباتية floral الضخمة التي تم الحصول عليها عبر تنقيبات عام 1988 لازالت تنتظر الدراسة.
THE CULTIVATED FOOD PLANTS
النباتات الغذائية المزروعة
هناك شك بسيط – يراود الباحثين – حول الوضع الزراعي في مجتمع السبي الأبيض في أواخر عصر النيوليت، وذلك بالاعتماد على نسب البذور التي تم استعادتها من خلال التنقيبات، يبدو جليا أن الحبوب وخاصة الــ ( emmer wheat)(1) قد شكل المحصول الرئيسي في أواخر عصر النيوليت في وادي البليخ. أما (enikornwheat) والشعير زُرِعا بكميات متوسطة, وربما وجدت كخليط في الحقول المزروعة بــ(emmer wheat)(1) فضلاً عن امتلاكها لسُوقٍ خشنة. والتي احتفظت بالبذور في السنبلة حتى موسم الحصاد.
“(1)- سداسي لحنطة برية، نوعه البري مستوطن في فلسطين، وجنوب الأناضول، وقد عثر على نوعه المدجن في المريبط، وهو أوسع أنواع الحبوب الشائعة.“
أن الحبوب المدجنة في المنطقة ربما شابهت إلى حد كبير نظيراتها البرية, تلك التي كانت حبوب شتوية, والتي تكيفت مع كمية تهطال سنوية ذادت عن (200 ملم) ومع فصول واضحة الرطوبة والجفاف (انظر على سبيل المثال Barker 1985 : 44) .
أما في الأيام الحالية تتم زراعة المحاصيل حالما يبدأ المطر بالسقوط في فصل الخريف ويتم الحصاد في شهر نيسان أوأيار, ربما هذه الممارسات الحديثة لا تختلف كثيرا عن تلك التي في عصور ما قبل التاريخ. فربما كان يتم إراحة الأرض بعد موسم الحصاد لتخزين الرطوبة وعناصر الخصوبة. إذ لم تكن الظروف المناخية وحدها تمنع الإنتاج المستمر للأرض ولكن زراعة الحبوب غير المنقطعة (عدم إتباع الدورة الزراعية) تنتهك أيضا معظم الفوسفور والبوتاسيوم من التربة, وتؤثر أيضا في تركيبة التربة وتؤدي إلى نمو الأعشاب الضارة والطُفيليات (Barker 1985 : 44 , 51). فتجديد خصوبة التربة يتم كما يلي: إما إراحة الأرض أو استخدام السماد العضوي (روث الحيوانات) أو على الأقل إدخال بعض المحاصيل كالبقوليات Legumes (العدس, الحمص, الفول) التي تحول النتروجين الموجود في الهواء إلى التربة.
أن شساعة المساحات المزروعة بـ(Emmer wheat) ناتجة عن عدة أسباب:
- قدرته العالية على التكيف, ومقاومة الظرف المناخية وخصائص التربة.
- يحتاج إلى اقل كمية من المواد الكيميائية والمواد الغير عضوية الموجودة في التربة.
- إضافة إلى أمكانية استخدام قشهُ في تسقيف البيوت ويُستخدمُ ايضا كمِهاد لترقد عليها المواشي (Ibid : 44 – 46).
إن بقايا المحصول النقي – الخالي من الشوائب – تم اكتشافه في الحفر الناقوسية الشكل وبصورة خاصة حول بعض المباني الدائرية الصغيرة أو بيوت التولوس ( وهي المباني دائرية الشكل أو تلك التي تشبه مسقطها الأفقي شكل المفتاح، ميزت حضارة مرحلة حلف، وتسمى في بعض المراجع نموذج المفتاح، أو ثولوس – الحوار).
وفي الفترة المحصورة بين 1986 – 1988 تم الوصول إلى طبقات احتوت كميات كبيرة من الـ (emmer wheat) وهي في حالة متفحمة وكانت بالفعل خالية من بزور الأعشاب الضارة، إذ كانت متوضعة حول بعض بيوت التولوس في الجهة الجنوبية الشرقية من تل السبي الأبيض، وأغلب الظن، أن هذا القمح الُمحترق تم تخزينه كمونه في البداية – في بيوت التولوس – ثم أزيح من مكانه إثر تعرض المكان للدمار من قبل النار ( Akkermans 1989c : 64 ff ) . إن بقايا هذا المحصول تألف من القمح المدروس والخالي من بزور الأعشاب الضارة، حيث يشير الباحثان (Van Zeist and Waterbolk- van Rooijen 1989 :332 ) بأن العدد الكبير من السُنيبلات الشوكية والعصافة أو القنبع ربما هي دليل على إن مخزون الـ (emmer wheat) تألف بشكل كامل من السُنيبلات، في حين غياب بقايا ساق القمح culm (ساق العشب الجوفاء ذو العُقد) ربما يدل على أنه تم قطع السنابل وحدها أثناء عملية الحصاد. إن هذه الطريقة في الحصاد لا تؤدي فقط إلى خلو المحصول من الأعشاب الضارة و بزورها، وإنما تترك أيضا القش قائما في الحقل، وبذلك يتم خلق فُرص جديدة للمرعى من أجل الدواب، إلا انه من الواضح أن عددٍ ضخمٍ من بذور النباتات الحقلية الضارة – في عينات أخرى– تشير إلى أن الحبوب كانت تُحصد مع ساق القمح (مع القش): في هذه الحالة حُصِدت النباتات الحقلية الضارة مع المحصول وجُلِبت إلى المستوطنة وبعد ذلك تم تنظيف المحصول من الملوثات. من جهة أخرى, يبدو أن المحاصيل البقلية قد احتلت دورا ثانوياً في مستوطنة السبي الابيض حيث تم زراعة العدس والبازلاء ولكن بكمات صغيرة, وظهرت ايضا عينة واحدة من نبات البيقية (Viciaervilia) ولكن هذا الصنف كان متواجداً كنبات حقلي ضار, إذ أننا لا نملك أدلة كافية فيما إذا كان نبات البيقية يُزع أم لا. يبدو أن أهمية البقوليات قد تقلصت مع سير الزمن, ففي نهاية الألف السابع في تل الدامشلية شكلت العدس, والبيقية والبازلاء تقريباً ربع البذور التي تم الكشف عنها عبر التنقيبات, أما في مستوطنة السبي الأبيض وبعد حوالي ألف عام بلغت نسبة هذه الأصناف أجزاء صغيرة بالمائة. أن البقوليات لم تُزود أفراد المستوطنة فقط بالبروتينات الغنية التي ساهمت في تنوع النظام الغذائي إلى حد كبير, بل ساعدت أيضا على تزويد التربة بعناصر الخصوبة.
وهناك أيضا بذور الكتان linseed (Iinum usitatissimun) التي زُرعت على نطاقٍ محدودٍ حول مستوطنة الصبي الأبيض ولكن كمحصول إضافي (مساعد), فالباحث (Helbaek 1969) أشار إلى انه في أواخر الألف السادس ق م – في الأراضي المنخفضة الرافدية – تم زراعة نبات الكتان في الحقول المروية, أما زراعة الكتان في شمال غرب سوريا وجنوب شرق تركيا – تحت ظروف الزراعة البعلية – قد بدأت في مكانٍ ما في أواخر الألف السابع ق.م, إذ تم اكتشاف بذور الكتان في تل الدامشلية والسبي الأبيض ولكن بكميات محدودة. يمكن أنها زُرعت من أجل الزيت أو من أجل النسيج (أليافها و خيوطها) وأن ساق النبتة أسُتخدم في صناعة خيوط الكتان واستُخدِمت الخيوط في صناعة الملابس.
WILD PLANTS AND GATHERING
النباتات البرية وعملية الجمع
إضافة للممارسات الزراعية، كان سكان السبي الأبيض شديدي الاهتمام بالتقاط وجمع الفواكه والمكسرات ( الجوز، البندق) فالعينات النباتية المكتشفة تضمنت صدف الجوز و بذور شجرة الفستق Pistasia : (Pistachio) واللوز: Almond والخوخ: prune والتين: Fig . فشجر الفستق واللوز كانت تُزرع في غابات وسهول جبال طوروس التي تحدُّ (السبي الأبيض) من الشمال. وأشجار الفواكه البرية نادرة الحضور في وادي البليخ. كما يمكن رؤية مواقع أخرى قريبة من غابات أشجار الفستق واللوز. وتبين من تحليل العينات وجود أنواع نباتية أخرى شاركت النباتات الغذائية البرية المزروعة, كالأعشاب البرية والنباتات البقلية أو القرنية وظهر أيضا نبات الحُمّاض (Rumex). ويعتقد الباحث إن هذه الأعشاب وردت إلى التل كأعشاب ضارة أو إنها كانت تنمو بالقرب من الحقول المزروعة, أو ربما جُلبت هذه الأعشاب عبر روث الحيوانات الذي استخدم كوقود Miller 1984- Bottema 1984
وتبين ايضا من عينات الحطب النباتي إن العديد من أنواع الأشجار كانت موجودة بشكل طبيعي في وادي البليخ. خاصة في المستنقعات والسهول الفيضية كشجر الحور وشجر الدردار (المُرّان). في حين شكلت المكسرات (الجوز – البندق) والفواكه البرية تنوعا مرحباً به في النظام الغذائي. يقول الباحث (Barker 1985 : 48) إن النباتات البرية التي كانت تنمو في الأرض المُراحه والأرض البور ربما استخدمت كبديل للحبوب (قمح , شعير) في أيام المجاعات وشحِّ المحاصيل الزراعية. فنبات الجوز المجفف القصبة متوفر بغزارة على طول وادي البليخ وفروعه. وربما من حينٍ لأخر كان يجفف ويستخدم (كغذاء). بالإضافة إلى أن النباتات البرية كانت تُجمع لأغراض طبية أو ربما لاستخدامها في حِرف أخرى كالدباغة ومعالجة الخشب وصباغة النسيج. ورغم افتقادنا الدليل القاطع فإننا نعتقد بأن حلفيي السبي الأبيض قد مارسوا حياكة النسيج وصناعة السلال. فقد اكتشفت مادة لصناعة الحُصُر (Mattin) في قبور (العربجية) و(تبة غورا) في محيط سنجار، حيث كان يتم دفن الأطفال في قبورٍ مكسّوةً بتلك الحُصُر (Mat) (Mallawanand Rose 1950). بينما في موقع كاورا (Gawra) كان يتم لفّ الكبار (البالغين) بهذه الحُصُر, وبعدها يتم الدفن (Tabler 1950; 121).
أما في وادي البليخ, فأن أولى الانطباعات حول استخدام الحُصُرٌ مصنوعة من القصب. في أرضية المنازل ينبع من منتصف الألف الرابع في تل حمام التركمان وهذا ما اكتُشِف أيضا في جرمو وحسونة وعلي كوشوتبه سابز في الألف السابع والسادس ق م في كوردستان العراق، أي إنها كانت السباقة في هذا المجال. وهناك مواقع ظهر فيها النسيج القطني المجدول على نحوٍ مضلع والخيوط القُنّبية المجدولة كدليل على صناعة السلال. واكُتشِفت نتيجة التنقيبات كميات كبيرة من الأواني الجصية (White – Ware) فمثلا: في نهاية الألف السابع ظهرت في قرية بقرص الأواني التي تشبه السلال في شكلها (Le Miere 1983: 354)). إن ظهور السلال في أواخر الألف السادس ق م دليل على استمرار الحلفيين في صناعة حزم القصب, ودليلُ وجود الأواني الخشبية ظهورها في موقع شتال هويوك في وسط الأناضول في المراحل الباكرة من الألف السادس (Mellaart 1967). ولكن يُعتقد ان الخشب كان في البدءِ منتشراً في مواقع كثيرة من الشرق الأدنى, ووُجد بكمياتٍ محدودةٍ وفي حالة متفحمة, أتلف سوءُ الحفظِ كمياتٍ كبيرةٍ منه.
The role of cereal in antiquity دور الحبوب في العصور القديمة
- الاستهلاك و الإنتاج
يبدو من الصعب جدا إعداد مجموعة من البيانات تقدم لنا المعدل السنوي لاستهلاك الحبوب (القمح والشعير) في عصور ما قبل التاريخ، وفي أغلب الحالات تُستمد التقديرات من مقارنة الظروف الغذائية للتجمعات السكانية القديمة (عصور ما قبل التاريخ) مع الظروف الغذائية للتجمعات الريفية المعاصرة في الشرق الأدنى.
وعلى هذه الصورة أقترح الباحث (Johnson 1973: 97 ff) أن كمية الشعير المستهلكة في أواخر الألف الرابع في خوزستان (حيث كان الشعير المحصول الرئيسي في ذلك الوقت) ماثَلَت كمية الشعير المستهلكة من قبل قرويي القرى المعاصرة في المنطقة الإيرانية والعربية. وبكلمة أخرى، بلغ معدل الاستهلاك الفردي السنوي من الشعير (278) كغ كل سنة. والدليل النصي من أواخر الألف الثالث في منطقة بلاد الرافدين يشير إلى هذا الاتجاه بوضوح، حيث بلغ الحد الأدنى من الشعير المخصص للعيش السنوي (297) كغ.
يقول الباحث Adams 1981: 146: “على أية حال يجب أن ندرك – كما في هذه الايام – ان المنتجات الزراعية كانت خاضعة لنظام اقتصادي اجتماعي معقد حدد بدوره أساليب الاستهلاك بمقدار كبير”. ويرى الباحث (Wright 1969:23) أنه في منطقة (Hilla- Diwaniyah) الواقعة شمالي بلاد الرافدين تستخدم العائلة المؤلفة من (6) أشخاص حوالي (600) كغ من الحبوب سنوياً أي ما يعادل (100) كغ لكل فرد. إذا يمكننا القول كنتيجةٍ لما سبق أن الاستهلاك السنوي للقمح لدى حلفيي السبي الابيض بلغ 200)) كغ لكل فرد.
لا يتوفر لدينا دليل مباشر حول غلات المحاصيل – الإنتاج – في عصور ما قبل التاريخ، إذ أن كل التقديرات في البداية تعتمد قدر الإمكان على مقارنة أدلة الزراعة الحالية في المنطقة، فالزراعة البعلية الحديثة (زراعة القمح) في سوريا بين عامي (1976 – 1967) قد أنتجت ما معدله 703 كغ/ هكتار. أي أن الكمية السنوية تراوحت بين 438 كغ/ هكتار في السنة الشحيحة و 1238 كغ/ هكتار في السنة الماطرة ( FAO 1982 , table 55) .
و يتوقع الباحثان (De Brichambaut and Wallen 1963: 18) ان الظروف الهيدرولوجية والإنتاج الزراعي قد شكلا إلى حدٍ ما حلقة مغلقة لذلك فالسهول الشرقية الأردنية متوسط التهطال السنوي فيها هو 250 إلى 300 ملم، وتنتج 640 كغ/هكتار في حين أن معدل التهطال السنوي في المناطق الجافة يقل عن 250 ملم ويبلغ متوسط الإنتاج السنوي 400 كغ/هكتار (Russell 1988: 71). أما بالنسبة لقرية ( As van) الواقعة شرقي تركيا فأن معدل الهطول السنوي هو 350 ملم ، لذلك وجد الباحث (Hillman 1973:226- 27) أن متوسط إنتاج القمح التقليدي تحت ظروف الزراعة البعلية قد بلغ 630 كغ/هكتار. ويشير الباحث ( Flanney 1969: 88- 87) أن 410 كغ/هكتار من القمح هو المعدل السنوي لكل من إيران وخوزستان وكردستان بعد عام 1945، رغم إن الإنتاج في السنوات الماطرة قد يصل إلى أكثر من 1000 كغ/ هكتار.
إذاً على افتراض بأن الإنتاج السنوي في عصور ما قبل التاريخ كان أخفض من الإنتاج السنوي للأيام الحالية، و بالاعتماد على الظروف البيئية الطبيعية (دون إدخال الآلة) فأن 600 كغ /هكتار من القمح هو متوسط الإنتاج السنوي الذي تم افتراضه وهو افتراضٌ يلائم غلات المحاصيل في أواخر عصرالنيوليت في وادي البليخ.
The areas of cultivation
المناطق المزروعة
بالإضافة إلى زراعة (emmer wheat) تم زراعة انواع اخرى من القمح والشعير والبقوليات الحبية كالعدس والحمص – ولكن بدرجة أقل – كحدائق صغيرة كانت تحيط بالمستوطنة. على ما يبدو أن اهمية نوعية الحبوب والنباتات الغذائية الأخرى الداخلة في النظام الغذائي والغلات المتوفرة هي التي حددت المنطقة المزروعة, طبعا ذلك بالنسبة إلى الناطق الصالحة للزراعة.
على أساس هذه البيانات سيتم تخمين مساحة المناطق المزروعة في عصور ما قبل التاريخ, فكما تم الأفتراض سابقا على إن عدد السكان في مستوطنة السبي الأبيض قد تراوح تقريبا في ما بين (56 -93 ) شخصا, لكنني نوهت سابقا إلى بعض الشكوك في كون هذه الارقام غير كبيرة جدا وخاصة عندما تكون مقرونة بأدلة ملموسة من المستوطنة نفسها, فإذا اعتبرنا المناطق المنقَّبة ممثلة للموقع ككل, فأنها تبين أن كلاً من التلال الأربعة أو الخمسة معاً والمؤلِفة لتل السبي الأبيض ربما شكلت مجمعا سكنياً واحداً (ممتداً) وقد آوى كلٌّ منها أسرة او عائلة واحدة.
في هذه الدراسة سنفترض بشكل أساسي ان تل السبي الأبيض الحلفي كان مسكونا بخمسة أُسرٍ فقط لفترة معينة من الزمن, وقد شكلوا معا تعدادا سكانياً بلغ 50 شخصا كحد اعلى. فضلاً عن ذلك سنفترض استهلاك سنوي بلغ 200 كغ من القمح لكل شخصٍ (لم يُأخذ في الحسبان العمر والجنس واختلافاتهم المرتبطة بالاحتياجات الغذائية). في حين ان الانتاج حُدد بـ (600) كغ/هيكتار في العام الواحد, من هذه الارقام أو الحسابات نستنتج إن كل هيكتار من الأرض المزروعة انتج ما يكفي لإطعام ثلاثة أشخاص, أو بتعبيرٍ آخر, إن (50) شخصاً يحتاجون مساحةٍ مزروعة تقدر بحوالي (17) هكتار.
على افتراض أن إراحة الأرض قد مُرست في وادي البليخ في نهاية عصر النيوليت، فإننا على الأقل قد نضاعف الحاجة إلى الأراضي المزروعة حول مستوطنة السبي الابيض. وعلى الرغم من أن سهل البليخ – ربما – أمن مرعى كافٍ على مدار السنة، فقد خُصصت نسبة مشابهة لما سبق كعلف للحيوانات. وعند الأخذ بكل هذه العوامل، فأنه يبدو أن مجتمعا من (50) فردا قد تطلب مساحة زراعية (مزروعة ومراحه معا) بما يناهز 133 هكتاراً، أي ما يعادل 2,7 هكتارا لكل فرد. إضافة لذلك يجب تخصيص بعض المساحات – بعض المساحات الصغيرة – من أجل أنواع زراعية أخرى. في الواقع قد تكون الأرقام التي أشرنا إليها كبيرة للغاية: فعند احصاء كمية القمح المفترض أنها قد اُستُهلِكت في السبي الابيض في أواخر عصر النيوليت 200 كغ لكل فرد, والقيمة الحُريرية للقمح )3340( حريرة في الكيلو غرم الواحد Flannery 1969, table 3)) والحد الادنى المخمن من متطلبات كل شخص يومياً من الحريريات والمقدرة بــ (200 ) حريرة لكل شخص في اليوم الواحد.
وهكذا نجد أن الكمية المقدرة من القمح والمستهلكة في السبي الأبيض قد كانت كافية لتعطي الاحتياجات الحُريرية لكل فرد خلال 11 شهراً من السنة. وعند الاخذ بالاعتبار وجود مصادر غذائية اخرى (البقول, اللحم, وغيرها من المنتجات الحيوانية الاخرى) والتي قد ساهمت في تماسك النظام الغذائي لسكان المستوطنة بدرجة عالية, فيبدو أنه تمت الحاجة إلى مساحات زراعية صغيرة من الحبوب لتلبية احتياجات المعيشة حتى وإن قبلنا بالأرقام المذكورة آنفاً, فمن الواضح ان منطقةُ محدودةً من جوار السبي الابيض كانت تتم استغلالها في الممارسات الزراعية, أي بدائرة نصف قطرها حوالي 650 م من مركز مستوطنة السبي الأبيض.
Production capacity طاقة الإنتاج القصوى
من خلال الابحاث والافتراضات السابقة يمكننا القول بأنه على الأقل أكثر من نصف سكان مستوطنة السبي الأبيض قد شاركوا العمل الحقلي في موسم الحصاد بالفعل، إن هذا الاستنتاج غير مستبعد الوقوع، فإذا أخذنا بعين الاعتبار الأهمية المطلقة لحراثة الارض في المجتمعات الزراعية التقليدية; على الأرجح إن كل فرد من أفراد المستوطنة قادر على فعل بعض المجهود والكدح وترك الواجبات الملحة الأخرى، والذي تم استثماره في الحقل أثناء موسم الحصاد. من جهة أخرى، فقد تم تأمين كافة متطلبات العيش والبقاء (لكن دون فائض في الإنتاج) عن طريق الزراعة البعلية في فترة النيوليت (العصر الحجري الحديث) والتي قد تكون محتملة في ظروف انتاج مثالية. ولأحدهم أن يتساءل فيما إذا كانت هذه الظروف المثالية قد تحققت في الواقع أم لا. فكما تم مناقشته سابقاً: أن أي نكسة ستضع عبءً ثقيلاً على كاهل المستوطنة، وبشكل خاص أثناء موسم الحصاد. لذلك كلما كانت مدة الحصاد أقل (أي أقل من المدة الزمنية التي تم افتراضها بثلاثة أسابيع) كلما كان العبء أخف على أفراد المستوطنة، لذلك كان من الواجب استخدام وسائل متطورة في عمليات الجني. وبالرغم من عدم استطاعتنا البرهنة أو أثبات ذلك، يُفترض بأن الأراضي المحيطة بمستوطنة السبي الأبيض، والتي خُضِعت للزراعة بلغ مساحتها حوالي 5,66 هكتار.
Irrigation agriculture
الزراعة المرويّة
في أواخر الألف السادس ق.م وبشكلٍ خاص في بلاد ما بين النهرين تم ممارسة الزراعة المروية بدرجاتٍ لا بأس بها, وهذا ما تم استنتاجه من الأدلة النباتية المكتشفة في المواقع التابعة لحضارة سامراء كتل الصوان وجوغا مامي (Helbaek 1964 انظر أيضاً Oates 1973 ; Oates and Oates 1976). ويُحتمل أن الأراضي المحيطة بتل الصوان الواقع في سهل دجلة الفيضي قد نُظِمت فيها الزراعة على أساس الفيضان الموسمي.
فالباحث (Helbaek 1964: 47) يُشير إلى أن حجم الحبوب – القمح والشعير – الهزيلة تنفي أمكانية وجود شبكة من القنوات المنظمة, من ناحية أخرى وبالتحديد في موقع جوغاممي تم العثور على الدليل الحقيقي حيث تم اكتشاف أقدم شبكة قنوات منظمة (Oates and Oates 1976: 148 ff), حيث أمتد عددٌ صغير من القنوات على طول الجانب الشمالي للتل بعرض بلغ المترين, وطبقا لعلم الستراتيغرفيا فأن هذه القنوات تتزامن مع مراحل الاستيطان السامرائي في المستوطنة. أما في الجهة الجنوبية للتل تم اكتشاف أجزاء لقناة أكثر ضخامة, حيث بلغ عرضه تقريبا (10م), وبالاعتماد على الكسر الفخارية التي تم التقاطها من أرضية القناة يمكننا تأريخه بفترة السامراء. وقد استمر استخدام هذا القناة بشكلٍ متواصل خلال الألف الخامس وربما الألف الرابع أيضا, والدليل على ذلك الفخار المكتشف فيه عبر التنقيبات فموقع جوغا مامي يقدم لنا دليلاً ثابتا على استخدام قنوات ري صغيرة في العراق في منتصف الألف السادس ق.م, في حين تم استخدام قنوات ري فعلية قبل 5000 ق.م.
أما في الوقت الحاضر, لا يوجد دليل مباشر حول ممارسات مشابهة في المناطق الشمالية البعيدة التي سُكِنت من قبل التجمعات الحلفية. فالمواقع المنسوبة لثقافة سامراء تقع بشكلٍ أساسي في مناطق هامشية خارج حدود المناطق التي تكون الزراعة البعلية ناجحة فيها بشك منتظم , لذلك توجب استعمال تقنية الري لتأمين متطلبات العيش وضمان استمرار المستوطنات. من ناحية أخرى فالظروف البيئية على طول الأطراف الشمالية البعيدة للهلال الخصيب (موطن الثقافة الحلفية) ربما أمنت بسهولة متطلبات البقاء عن طريق الزراعة البعلية, وذلك عن طريق تحقيق شرطين أساسيين: فإما أنَّ التقنيات الزراعية كانت في حالة متطورة, أو ضخامة المخزون البشري (اليد العاملة) الذي سمح بزراعة الأراضي على نطاقٍ واسع.
في الوقت الحاضر – في العراق – تشكل الزراعة البعلية في المناطق الشمالية المصدر الرئيسي لإنتاج الحبوب في البلاد, وذلك بالرغم من أن الزراعة المروية في الجنوب تؤمن غلّات أعلى بمرتين مما ينتجه الهكتار الواحد في الشمال. من خلال هذا التوضيح السابق يتبين أن مجموع الإنتاج يتناسب مع كمية أو مساحة الأراضي المزروعة, بمعنى ابسط , أزرع أكثر تجني أكثر(Weiss 1983: 40). وبالرغم من إمكانية تعميم هذه الحقيقة على الزراعة الحالية حيث الآلة الحديثة المستخدمة, إلا أنها قد تكون بعيدة المنال في عصور ما قبل التاريخ. وبالاحتكام إلى الحسابات السابقة التي أكدت على ضوء تنقيبات منطقة وادي البليخ, فاليد العاملة والتقنيات المستخدمة في الزراعة (المناجل, المخازن) هي التي حددت مساحة المناطق المزروعة في فترة النيوليت المتأخر.
أن حجم وتوزع المواقع الحلفية في وادي البليخ يشير إلى ما يلي :
- معظم المواقع الحلفية صغيرة جداً.
- عملياً, كل المواقع تقع بالقرب من الأودية, وادي البليخ وفروعه الرئيسة.
- وُجدت معظم المواقع في القسم الشمالي من وادي البليخ والقليل منها في الجنوب.
وكما تمَ الإشارة إليه سابقاً, فالمناطق الجنوبية من حوض البليخ في هذه الأيام, كما يُحتمل أنها كانت على هذه الحالة في فترة النيوليت المتأخر, هي مناطق هامشية غير ملائمة للزراعة البعلية. فالأراضي الجنوبية في أواخر الألف السابع وبدايات الألف السادس ق.م كانت فعلياً خالية من المستوطنات الدائمة, على ما يبدو سُكِنت المنطقة من جديد في الألف الخامس ق.م وذلك على نطاقٍ ضيق. لو أن الزراعة مُرِست هنا على نطاقٍ منظم, فهذا تطلب نوعاً من أنواع الري, فتوضع المواقع بالقرب من مجاري المياه, يطرح احتمالات أخرى, طبيعية كالفيضان الموسمي. إذ أن كمية الأمطار المتساقطة في أواخر فصل الخريف والشتاء بالإضافة إلى الماء الذائب من ثلوج سلسلة جبال طوروس في فصل الربيع تتسبب في نقل كميات ضخمة من المياه من السهول المجاورة والمناطق الخلفية التركية إلى الوادي مسببةً غمر أجزاء واسعة من الأرياف.
من هذا المنظور, فالصور والأرقام التي تم افتراضها سابقاً حول المتوسط السنوي لغلّات المحاصيل قد تشوش أحدهم, إذ أن المناطق كانت واسعة, فبعض الأراضي كان مردودها عالياً والبعض الآخر (المناطق الهامشية أو الأكثر جفافاً) كان المردود فيها منخفض. فإذا كانت أهمية الحبوب في النظام الغذائي أضخم من الكميات المفترضة سابقاُ أو أن المستوطنة تطلبت فائضاً من الحبوب فلابد أنَ سقاية المزروعات (سواءً طبيعية أو اصطناعية) قد مُرست إلى حدٍ ما من قبل التجمعات الحلفية وذلك بغرض زيادة الإنتاج الزراعي. ومع أن الزراعة المكثفة تزيد الإنتاج لكل وحدة من الأرض إلا أنها تُنهِك القدرة الإنتاجية أيضا. أشير مراراً – اعتماداً على الأدلة الإثنوغرافية – بأنه تم ممارسة المقومات التقليدية للاقتصاد أو بمعنى أدق, التقليل من الجهد المبذول في النشاطات الزراعة (Nye andGreenland 1960 :129; Clark 1966: 357)، أو كما عبر كلٌ من ((Smith and young 1972: 16 : “لم يتعمد المزارعون الأوائل إنتاج فائض غذائي من خلال تغيير النظام الإنتاجي إلى نظام أخر. فكل الأشياء وُجدت متساوية، فهم يفضلون النظام القادر على منحهم المردود الأعلى لكل ساعة عمل، وهكذا وسّعوا أوقات الفراغ لديهم، وبذلك تفرّغوا لنشاطات أخرى مثل: الصيد، الحرب، الاحتفالات، أو التسكُّع. لإبقاء الجهد المبذول في مستوىً أدنى حتى لو تطلب ذلك فترة من الجوع في وفتٍ متأخرٍ من السنة “.
لذلك يبدو أن تغيير طريقة أو أسلوب الإنتاج لم يكن قراراً اختياريا (طوعياً) لإنتاج المزيد من الغذاء, بل استجابةً لحاجات ملحة; أحياناً بعض الدوافع ضرورية لإرغام التجمعات التقليدية لتغيير استراتيجيتها في العيش, على سبيل المثال قد تكون هذه الحوافز نتيجة للنمو السكاني) Boserup 1965 , 1981 ; Smith and Young 1972), أو تغيُّر الظروف البيئية (Moore1983) أو الضغوطات السياسية (Adams 1966 ). في الوقت الحالي لا يوجد بين أيدينا أدلة قطعية تؤكد بأن المجتمع الحلفي في وادي البليخ قد واجه هكذا نوع من الضغوطات الاجتماعية أو البيئية لتغيير أو تكثيف أساليب عيشها. فمن ناحية الجهد المبذول يُتَوَقَّع بأنه لم يحدث أي تكثيف زراعي متعمَّد (deliberate) أو التحول من الزراعة البعلية إلى الزراعة المروية, رغم أنَّ الزراعة المكثَّفة اقتصرت على الأراضي الفيضية المحيطة مباشرةً بنهر البليخ والتي ربما مُرست بشكلٍ منتظم.
Storage and storage facilities
المخزن و وسائل التخزين
سواءً شارك الحلفيين في تكثيف العمل الزراعي أم لا، فأنه من الواضح – من خلال الأبحاث والافتراضات السابقة – أن كميات ضخمة من الحبوب قد خُزِنت في المستوطنات الحلفية، وتقدر كميات الحبوب التي جُلبت الى المستوطنة – في ظروف الزراعة البعلية – بحوالي 21 إلى 31 طن من الحبوب (مستوطنة السبي الأبيض) وقد تكون هذه الكمية أضخم بكثير في حال توفر ظروف مثالية. أما الحبوب المروية قد تصل الكمية المخزنة في المستوطنة إلى 62 طناً. على ما يبدو إن هذه الكميات تطلبت معدات تخزين ضخمة، و تنظيم معقد.
يمكن تخزين الحبوب بعدة طرق اعتمادا على حالة المعالجة، فمن ناحية يمكن تخزين الحب – فضلا عن الكميات المطلوبة للبزار – على شكل مُنتج نهائي (فاقدا للنشاط الكيميائي والبيولوجي) على سبيل المثال: الطحين، الخبز.
ومن ناحية أخرى، يمكن تخزينه في حالة بيولوجية نشطة وذلك على هيئة حبوب منفصلة، أو وهي في السنابل، أو في السنابل الغير مقطوعة من سُوقها (Sigaut1988). في كل الأحوال يبدو الاحتمال الأول بعيد المنال، إذ أن حفظ كامل المحصول على شكل مُنتج نهائي تبدو عملية صعبة جدا في فترة النيوليت.
فاللقى الفنية المصنعة تشير إلى أنه في مستوطنة السبي الأبيض تم فقط استخدام الهاون اليدوي الصغير والمدقات. فعندما خُزن الحب في طور المعالجة كان – في أغلب الاحتمال – يُسلق أي يُغرق بالماء الحار وبعد ذلك يُجفف قبل الجرش أو الطحن. فالقمح المسلوق أو الــ bulgur (البلغر) في الوقت الراهن منتشر في مناطق واسعة من الشرق الأدنى، يبدو أن لهذه الممارسة تاريخ طويل. في أغلب الاحتمال، تم تخزين الحبوب في السبي الأبيض والتجمعات المرتبطة به في حالة بيولوجية نشطة.
فالباحث ( Sigaut 1988 :6) يشير إلى إن الحب الحي يمكن تخذينه بأساليب متعددة، ولكل أسلوب قيود و متطلبات طبيعية محددة:
1 – الحب بمقادير كبيرة، بكلمة أخرى، المدروس والمغربل.
2 – الحب بمقادير كبيرة مع التبن، بكلمة أخرى، المدروس ولكن الغير مغربل.
3 – السنابل الغير مدروسة و لكن المفصولة عن سُوقها.
4 – السنابل الغير مفصولة عن سُوقها و الغير مربوطة مع بعضها.
5 – حُزَم ، بكلمة أخرى، السنابل مع سُوقها والمربوطة معا.
يبدو أن التقنية الثانية كانت مستخدمة في السبي الأبيض ومن الجدير بالذكر أنه تم اكتشاف كميات ضخمة من الـ emmer wheat المحترقة حول بعض بيوت التولوس العائدة إلى السوية الثالثة، وقد كان مدروسا ولكن غير مغربل (de- husked). وهنا على أحدهم أن يتساءل، أين تم تخزين هذه المقادير الضخمة من الحبوب، فقد أشير مرارا بأنه تم استخدام الحفر الناقوسية وأنماط أخرى من الحفر كمخازن للحب في المواقع الحلفية، إلا أن الأدلة غير قاطعة.
ففي موقع ياريم تبه ظهرت الكثير من الحفر الناقوسية الشكل والأسطوانية في السوية الدنيا (IIV)، اثنان من الحفر الناقوسية – على سبيل المثال – بلغ قطرها (عند الفوهة) حوالي 1 متر وبعمق حوالي 50, 1 متر وهناك حفرتان لهما نفس القطر، إلا أن عمقهما على التوالي هو 95,2 و 60 ,3 متر.
وقد أشار المنقبين بأن الحفر العميقة ربما استُخدمت كآبار أو كمخازن لحفظ الماء والحفر الضحلة ربما استخدمت لغايات تخزينية (حفظ المنتجات الغذائية) Merpert et al . 1978: 37. أما الحفر الأخرى pits فقد كانت ممتلئة بمخلفات المستوطنة كــ (العظام والكِسَر الفخارية وكسر من المجاريش اليدوية) ولم تمنحنا أية أدلة واضحة حول الغاية الأساسية منها. وأحيانا ما يصدف وجود هذه الحفر الأسطوانية ضمن الأبنية الدائرية مشكلةً بذلك مساحةً إضافية كقبو ضمن المنزل والتي ربما كانت تخدم غايات تخزينية (Munchaev and Merpert 1973:10-11). ففي العربجية أشارت الدلائل على أن الحفر الدائرية استُخدمت كمخازن للحب، وذلك على أساس (القِدر) الذي تم اكتشافه في إحدى الحفر وهو يحتوي على حبوب القمح من نوعية الـ emmer wheat (Mallowan and Rose 1935:15). إلا أن محتويات هذا القدر وحده لا تستطيع أن تحدد استعمالات هذه الحفر، وإن وجود بقايا الشعير فيما يسمى الـ (البئر) في موقع العربجية قاد المنقب ماكس مالاوان إلى الاستنتاج بأن هذا المَعْلم أستُخدم كمستودع للحبوب في الوقت الذي لم يعد يُستخدم كمأخذ للماء (Ibid). وبالرغم من الحاجة إلى الدليل الحازم، يبدو – إلى حدٍ ما مقنعاً- افتراض أن الحفر الناقوسية استُخدمت في وظائف التخزين (Peters 1979) ولمزيد من الشرح والتوضيح راجع (Reynolds 1974). من هذا الوصف يتضح إنه من الأهمية إبقاء الحبوب جافة في المخازن وهذا يتحقق بإغلاقها بطريقة دقيقة وهذا ما تطلب مواد كتيمة (غير نفوذه للماء والرطوبة)، إذ أن التلييس الداخلي غير ضروري (Reynolds 1974: 130).
في مستوطنة السبي الأبيض تم الكشف عن العديد من هذه الحفر الناقوسية الشكل أو التي على شكل خلايا النحل، وقد تراوح قطر كل منها ما بين 201. إلى 501. مترا عند الحافة و 50. 1 إلى 00, 2 مترا من الأسفل، أما عمقها بلغ 001. مترا، وقد كُسيت بعض أرضيات هذه الحفر بالحجارة. فضلاً عن شكلها المتميز فأن بعض الحفر في مستوطنة السبي الأبيض أعطتنا العديد من الأدلة حول استخدامها كمخازن للحبوب، إلا أن هذه الأدلة تبقى موضع شك من قبل الباحثين ولا بد أن نشجع استنتاجات أخرى. وبالفعل, على الأقل إحدى الأبنية (المتوضعة في السوية الثانية جنوب شرقي التل) منحنا هذا العدد من الحُفر, في حين كانت حُفر التخزين نادرة أو غائبة تماماً في الأبنية الأخرى. أذاً لو افترضنا أن الحفر كانت وسيلة التخزين الأساسية في مستوطنة الصبي الأبيض, فلا بد أنها تقع أو تتوضع في مكان ما – ربما داخل المستوطنة أو في محيطها – لم تصله معاول المنقبين بعد.
أقتُرِحَ قديماً أن البيوت الدائرية الصغيرة أو ما يسمى بـ ـ(التولوس) في مستوطنة السبي الأبيض كانت تُستخدم كمخازن للحبوب, فأثناء التنقيب تم الكشف عن عددٍ كبيرٍ من هذه الأبنية – إما بشكل كامل أو جزئي – وجميعها تقع في الباحات الأمامية أو المناطق المفتوحة المحيطة بالتجمعات السكنية الرئيسة.
أنه لمن المفيد أن نتذكر بشكلٍ مُوجَز الخصائص أو المميزات الرئيسة لهذا النمطمن العمارة:
- أن جميع بيوت التولوس المُكتشفة في السبي الأبيض تمثل بناءً دائرياً من غرفة واحدة – باستثناء التولوس العائد إلى السوية الرابعة والمتوضع جنوب شرقي التل – قطرها الداخلي حوالي ثلاثة أمتار باستثناء إحداها حيث بلغ قطره إلى 1.5 م.
- ليس لها أساسات.
- جميعها بُنيت من لَبِنات صغيرة إلى حدٍ ما.
- جميعها لها مدخل صغير يتراوح عرضه ما بين 60 – 90 سم.
- في بعض الأوقات وُجدت عتباتٌ من الطين أو من اللبن.
- الوجه الخارجي للجدران كان مكسوً بالطين يعقبها – غالبا – طبقة رقيقة من الجبصين.
- أما الوجه الداخلي للجدران بالإضافة إلى الأرضيات, كانت تُغطى بطبقة ثخينة قاسية من الجص المُحترق الممزوج بالطين والتبن, بسماكةٍ أعلى من 2 سم.
تُعتبر عمارة التولوس إحدى السِمات المميزة للمستوطنات الحلفية, إذ أن جميع الأثريين مقتنعون الآن بأن هذا النمط من العمارة تمثل العمارة الحلفية الأولى, إلا أنه من حينٍ لأخر توحي بعض بيوت التولوس بأنها كانت تُستخدم في نشاطاتٍ بشرية أخرى فيما عدا العيش, ربما كانت تُستخدم كمخازن أو كغرف للتخزين (Merpert et al1977 91; Munchaev and Merpert 1973: 12; Seeden 1982).
أما في السبي الأبيض فقد وجدنا بعض الأدلة التي توحي بأنه على الأقل في هذا الموقع كانت بيوت التولوس تُستخدم لغايات أخرى في ما عدا السكن البشري. إن إحدى أهم الأدلة أقناعاً في مستوطنة السبي الأبيض هو ظهور بعض بيوت التولوس حول بنائين مركزيين يمتازان بالضخامة. أن هذه التراكيب المستطيلة ذو الغرف المتعددة بُنيت بحذرٍ شديدٍ حتى أن بعض أجزائه بنيت على أساساتٍ من الحجر, ويُعتقد – مع قليلٍ من الشكِ – أنها كانت تجمعات سكنية, أن هذه الصورة القوية تذكرنا بالقرى المعاصرة في الجزيرة السورية, حيث البيوت المستطيلة المخصصة للعيش والمُحاطة بإسطبلات صغيرة (مخصصة للماشية) وغرف التخزين الدائرية في تخطيطها العمراني. وهناك أشارتٌ أخرى دالةٌ على أن هذه التراكيب (عمارة التولوس) استخدمت لوظائف أخرى في ما عدا السكن في السبي الأبيض, فأرضياتها الغير منتظمة والمتموجة وتليسها الداخلي المكون من مواد صلبة, وربما ارتفاعها المحدود, والعثور على كميات ضخمة من القمح (emmer wheat) حول بيوت التولوس العائدة إلى السوية الثالثة والمتوضع جنوب شرقي التل.
من هذا المنظور, تبدو الوظيفة التخزينية لهذه التراكيب – محتملة – في السبي الأبيض, إلا أن هذه الأبنية ربما استخدمت لوظائف أخرى إذ تم العثور على موقدٍ في إحدى هذه الأبنية. كما أن تخطيطها العمراني المتشابه يشير أنه في الأصل صممت لنوعٍ خاصٍ من النشاطات, وهذه النشاطات تغيرت حسب الحاجة أي أنها أدت دوراً تخزينياً وسكنياً ومثال ذلك القرى المعاصرة في شمال سوريا.
أن الشكل الهندسي لهذا النمط من العمارة – على الأقل في السبي الأبيض – يدعم التفسير القائل بأن هذه المباني استخدمت كمخازن, فأبنيةٌ كهذه: أي المستديرة ذات الجدران المنحنية نحو الداخل وباتجاه الأعلى مناسبة بدرجة عالية لتخزين الحبوب بمقادير كبيرة (طبعاً مع إغفال فيما أذا كانت هذه الأبنية مقببه بشكلٍ كامل أو مسطحة في مستوٍ معين) كما إنها أكثر قوة وصلابة من الأبنية المسطحة, وأكثر قدرةً على مقاومة الدفع الجانبي وذلك لمرونة تخطيطها الهندسي, ويمكن أن نقدر الدفع الجانبي بـ 3/1 من الوزن الميت, وبكلمة أخرى, فثلاثة أطنان من الحب المخزن يعادل طنَين من الدفع الجانبي على الجدران (Reynolds 1974 : 125 ).
لو افترضنا أن التولوس استخدم كمخازن فلا بد أنها لبًّت العديد من المتطلبات فالحبوب المخزنة تمتص الأوكسجين من ناحية وتنتج الحرارة والماء وثاني أكسيد الكربون من ناحية أخرى، فإذا خُزِّنت في جوٍ عالٍ من الرطوبة والحرارة فستبدأ بالإنبات فوراً وستشجع الرطوبة نمو الفطريات والبكتيريا. وإذا لم تتخذ التدابير المناسبة ستتدهور الحالة البيولوجية للحبوب وتتعفن وتفقد قدرتها على الإنبات, أذاً لابد من إبقاء درجات الحرارة ونسبة الرطوبة منخفضة لكبت هذه النشاطات (Gentry 1967 : 2). كما أن إبقاء درجات الحرارة منخفضة يساعد أيضاً على الحد من الغزو المستمر للحشرات.
أن الجدار المبني من اللبن يمتلك خاصيات ممتازة, حيث أن خاصية الوصولية الحرارية فيها منخفضة جداً إذ أن المسامات في الطين الجاف تحتفظ بالحرارة, وكعازل حراري – على سبيل المثال – فأن الطين أفضل بكثير من الحجر.
فالجدران الطينية تعمل على تخزين الحرارة, وبالتالي تبقى درجات الحرارة تقريباً ثابتة ضمن المبنى, وبعبارةٍ أخرى, يبقى الجو الداخلي للمبنى باردا باعتدال في الأيام الحارة, ودافئاً باعتدال أثناء الليل. حتى في الشهور الباردة من السنة فأن درجات الحرارة ضمن المبنى الطيني بالكاد تكون عالية (Beazley and Harverson 1982 : 14).
ربما هذه القدرة العالية للطين في تخزين الحرارة هي ما أعطته الأفضلية لاستخدامه في بناء المخازن: إلا أن درجة الحرارة العالية نسبياً, وتمازجها مع الرطوبة الجوية الموجودة في الجدران ربما تسبب التعفن والتآكل في الحبوب المخزنة, وقد تم التغلب على هذه المشكلة بواسطة البناء الفوقي الدائري الضخم أو ما يسمى بالقبة. فالقِباب تفقد الحرارة أكثر من السطوح المستوية وذلك بسبب اتساع المساحة التي تتعرض لأشعة الشمس بالإضافة إلى خاصية الحمل الحراري أثناء هبوب الرياح, بالإضافة إلى فتحة التهوية المفتوحة في قمة أو تاج القبة والتي ساعدت على تبريد جو المبنى إلى حدٍ كبير (Ibid: 26 ; Bahadori 1978). لذلك فالفائدة الاساسية للتولوس كمخازن تعتمد بشكلٍ أساسي على خصائصها الحرارية العامة. إذ ان الحبوب الجافة يجب تخزينها في درجة من الحرارة أقل من 17c° لحمايتها من التدهور والتعفن (Gentry 1976:2). ولكن يمكن لتخزين الحبوب في التولوس أن يسير عبر خطوط مختلفة، وفي هذه المرحلة الثانية من الهام أن تمنع دخول الأوكسجين إلى منطقة التخزين بعد التعبئة، وذلك بإغلاق كافة المداخل بإحكام، وتخزين الحبوب في جو لاهوائي (anaerobic) أو جو ممتلئ بثاني أكسيد الكربون. كما أن وجود أية آثار للرطوبة داخل جدار التولوس ستسبب إنباتً في الحبوب المتوضعة مباشرةً بالقرب من الجدار. وهكذا سينتج ثنائي أكسيد الكربون الذي سيمنع بدوره إنبات الحبوب فيما بعد، وإذا كان التسرب بحدوده الدنيا سيتم التخزين بشكل منتظم أكثر( Reynolds 1974:119). ولكننا لا نثق فيما إذا كان هناك نظام تخزين محكم لدى حلفيي السبي الأبيض.
حسب الجدل الآتي، يبدو أن كل عائلة كانت تستخدم واحد أو أثنين من بيوت التولوس كمخازن لها. كما أن تحضير الطعام يومياً يتطلب استعمال متكرر لأدوات التخزين، وبينما نظام التخزين الذي تكلمنا عنه مسبقاً لا يقبل التسرب إلا في حدوده الدنيا، إذاً تم تنفيذ طوق أخرى للمحافظة على الحب، وفي أغلب الاحتمال تم تزويد التولوس بنظام تهوية، وذلك لتبريد الجو المحيط بالمحصول المخزَّن وبالتالي الحفاظ على درجات الحرارة في حدودها الدنيا لمنع التعفن.
لسوء الحظ لا يمكننا قول الكثير عن هذا النمط من العمارة, لأننا لا نملك الكثير من الأدلة عن ارتفاع جدرانها باستثناء القطر الداخلي, إذ نجد فقط جداراً يتقوس بشكلٍ خفيف نحو الداخل على مستوى الأرضية, مُشيراً إلى أنها بنيت بالأصل على ارتفاع قامة رجلٍ واحد. كما أننا لا نملك الكثير من الأدلة حول عملية تسقيف هذا النمط من البيوت; فالقبة هي المقترحة دوما, إلا أن السطح المستوي واردٌ أيضا. من هذا المنظور, فأن أي حساب حول الطاقة أو السِّعة التخزينية لبيوت التولوس يصبح تفسيراً عشوائياً.
Man-and-animal Relationship
الإنسان وعلاقته بالحيوان
- الحيوانات الداجنة في السبي الأبيض
جاءت البيئة الأثرية في تل السبي الأبيض غنية، وبخاصة لدى تنقيبات العامين (1986 – 1988)، وقد خُضعت تلك العينات إلى دراسة معمقة من قبل الباحثان (Van wijn gaarden – Bakker) وخاصة عينات موسم 1986 إذ اقتصر التحليل على منطقة واحدة فقط، و تحديداً المربع (P 14). إذ تبين بوضوح من خلال المنطقة المدروسة وجود نظام اقتصادي واستراتيجية اقتصادية في الموقع حيث تثبت هذه الأدلة على ان النيوليت المتأخر في السبي الأبيض كان يمثل تماماً مجتمعاً زراعياً وتدل أيضا على إن الصيد والجمع لم يشكلا سوى مظهر ثانوي من مظاهر الوجود الاقتصادي للتل. وأكدت الدراسة على أن التجمع الحيواني في السبي الأبيض هو تأكيد مباشر على مدى استقرار وتوازن النظام الزراعي وتأكيد على تربية الحيوانات (الماشية والخنازير).
أكثر من (95 %) من عظام هذه الحيوانات حُددت على أنها كانت لحيوانات مدجنة وهي مصنفة كالتالي: (الخراف. الماعز. الماشية. الخنزير. الكلب(، فقد كان الماعز والخراف الأكثر حضوراً، وشكلا معا ما مجموعة (60 – 70 %) من مجموع الحيوانات المدجنة. ويؤكد الباحثان ( van wijn gaarden – Bakker ) انه لم تُتًّبع استراتيجية عمرية معينة في عملية الذبح في السبي الأبيض على الرغم من أنه تم تفضيل الخروف والجدي الذي يتراوح عمره ما بين الشهرين إلى الأربعة أشهر. أما الربع الباقي فقد عاش فوق الأربعة أعوام، ويُعتقد أنه أستخدم لأهداف أخرى وليس فقط لتزويد القرية باللحم.
أما الخنازير فقد بينت الدراسة أنها دُجنت في الموقع وشكلت نسبتها (14 %) من نسبة الحيوانات المدجنة في التل وأن (90 %) منها كانت تذبح قبل أن تبلغ السنة والنيف. وأن القليل منها بلغ السنة الرابعة من عمره وقد لوحظ أن تدجين الخنازير ازداد أهميةُ مع مرور الزمن وذلك على حساب الماشية، إذ أن نسبة عظامها كانت تشكل (4 %) في السويات الدنيا من المربع ( p 14) في حين بلغت نسبتها (24 %) في الطبقات العليا من المربع نفسه. أما تدجين الكلاب فكان حاضرا أيضا في السبي الأبيض على الرغم من ضآلة الأعداد المكتشفة، حيث اكتُشفت شظيتين في الطبقة الدنيا من السوية (3) إلا أن حضور الكلاب في حقب أخرى من التل متوقعة (مقترحة) حسب رأي الباحث.
The role of domestic livestock
دور الماشية الأهلية أو المدجنة
وصلنا في نقاشاتٍ سابقة إلى أن الحبوب التي كانت تًجنى من الزراعة البعلية في تل السبي الأبيض لم تكن قادرة على تأمين احتياجات السكان الغذائية. وكان الاعتقاد بوجود مصادر غذائية أخرى قويا، وبكل تأكيد فأن النباتات الغذائية الأخرى عدى الحبوب كانت موجودة لكنها كانت تُزرع أو تُجمع على نطاق ضيق. وكان الصيد قليل الأهمية أيضاً، لذا نستطيع التخمين بأن الماشية لعبت دورا هاماً في اقتصاد السبي الأبيض. وفي ضوء تخميناتنا الباكرة حول دور زراعة الحبوب لدى حلفيي السبي الأبيض سيكون من الواضح ان تلك الأهمية الدقيقة للحيوانات صعبة أو حتى مستحيلة في الاستيطان. وقد اقتُرِح بأن تلك الحبوب قد زودت على الأقل نصف أو ثلاثة أرباع السكان باحتياجهم السنوي للقمح في السبي الأبيض. أما من حيث الحصول على الغذاء المباشر فإن دور الحيوانات من الممكن كان محدودا، وقد لبّت هذه الحيوانات أغراضا متعددة:
- ظهرت كمصدر لأللحم.
- استُغِلّت الماشية (الماعز والخراف) من أجل الحليب ومنتجات الألبان. وبذلك تمّ الحصول على المواد المغذية كالدهن والكالسيوم, الذين وجدا في المحاصيل الرئيسية بكميات قليلة.
- زوَّدتهم الحيوانات أيضا بالجلود وربما بالصوف, وقرون الوعل والعظام من أجل العمل الزراعي (كأدوات زراعية). فالعظام بكل تأكيد استُخدمت في السبي الأبيض كمثاقب وشفرات غير حادة مسطحة وعريضة, واستُخدمت في أغراض متنوعة أخرى. وقد صُنِعَت هذه الأدوات بالدرجة الأولى من أضلاع القفص الصدري لدى الماشية. أما بالنسبة للأصناف الأخرى فإننا نفتقر إلى الدليل المباشر في هذه المرحلة.
- ربما استُخدمت الدواب في أغراض الجر والنقل, فقد اُجزِم مراراً على أن الزراعة لدى الحلفيين قد تطلبت حراسة الأرض. ويبدو أن حيوانات الجرِّ قد أعدَّت خصيصاً لذلك، رغم الإشارة إلى عدم وجود دليلٍ يؤكد حراسة الأرض واستخدام الحيوانات في الجرِّ حتى الآن.
- ربما كانت أهمية الحيوانات في أنها لعبت دور تخزيني (Banking) (كاحتياطي غذائي) كعامل مساعد في الحد من مخاطر شُح المحاصيل أو الكوارث الاقتصادية الأخرى التي كانت تتعرض لها المستوطنة من حين لآخر.
وعدا الدور الاقتصادي المباشر, فقد لعِبت الماشية والدواب دوراً اجتماعياً هاماً في تحديد العلاقة بين الفرد والجماعة في المجتمع. حيث امتلكت الماشية دوراً هاماً في المجال الديني أو كوسيلة في الثراء السريع (خلقُ تمييزٍ وحواجز اجتماعية). فقد اقترح الباحث (Mallowan 1935 :79 – 88 , 154 ff) مسبقاً أن الكثير من صور الدواب وخاصة الثور رُسِمت على الفخار الحلفي الملون والمسمى (البكرانيا) وصور الثور على الحجر والعظم و التيراكوتا, من الممكن لجميعها ان تشير إلى وجود عبادة الثور أو ارتباط بالرمزية الدينية.
في قلب الأناضول, يبدو أن عبادة الثور كانت موجودة في أوائل الألف السادس ق.م، ودليل ذلك المزارات (الأضرحة) التي تم الكشف عنها في شتال هويوك (Mellaart 1967) والتي تبقى محط شكٍ في كونها تابعة للمجتمع الحلفي أو مرتبطة أيضاً بالتركيب الثقافي في سوريا و ميزوبوتاميا. من الأهمية التأكد على انه إذا كانت مثل هذه المعاملات أو التنظيمات أو المؤسسات التي تملك مظهراً ثقافياً موجودة في السبي الأبيض أو المدن الحلفية الأخرى, فيمكن أن يكون لها مظاهر اقتصادية مهمشة مقارنة بامتدادها الواسع, وهذا يضعف منطقنا الحالي حيث أن معرفتنا الحالية (والتي نعترف بأنها محدودة بشكل كبير) بخصوص سعي (functioning) مجتمع حلف وراء البقاء (المعيشة) لا تصب بهذا الاتجاه.