قبل تناول هذه القضية المثيرة للجدل ليس فقط لدى من يعتبر نفسه خصماً سياسياً لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي) في إطار الحركة الكردية في سوريا، وإنما لدى بعض رفاق وأنصار وجماهير الحزب أيضاً. علينا أن نتفق بأن هناك قاعدتين سياسيتين ثابتتين تعتبران من بديهيات العمل السياسي، بغض النظر عن الجهة التي تعمل في هذا المجال، سواءً كان حزباً أو تكتلاً أو دولاً:
– في العمل السياسي لا توجد عداوات دائمة أو ثابتة، ولا صداقات دائمة أو ثابتة، إنما هناك مصالح دائمة وثابتة على ضوئها تُرسم السياسات وتُحدد جبهة الأصدقاء والأعداء، وتُبنى التحالفات السياسية الضرورية لمرحلةٍ معينة.
– هناك تخندقات وتحالفات أو استقطابات سياسية موضوعية تتحكم بها الظروف الموضوعية والذاتية، والتي بمعظمها تخضع لمعايير إيديولوجية أو جغرافية أو أهداف سياسية آنية أو غيرها من التقاطعات السياسية (جامعة الدول العربية، مجلس التعاون الخليجي، منظمة التعاون الإسلامي، الاتحاد الافريقي، الاتحاد الاوروبي… الخ).
اعتمد حزب الوحدة (يكيتي) في رسم سياساته ومواقفه على هاتين القاعدتين منذ نشأته في تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، حيث أكد على أن جميع الأحزاب الكردية والكردستانية هي أحزاب شقيقة تناضل من أجل أهداف مشروعة تخص ساحتها الكردستانية، ولها كامل الحق في اختيار اسلوبها النضالي بالتنسيق مع أقرانها من الأطر الكردية في تلك الساحة، لتحقيق أهدافها المنشودة، مع التأكيد على مشروعية الاختلاف والتناقض ضمن البيت الكردي والكردستاني واعتبارها تناقضات ثانوية؛ وركّز الحزب كثيراً على أهمية وضرورة التمسك بالتناقض الرئيسي مع الأنظمة الغاصبة لكردستان وتغليبها على التناقضات الثانوية الأخرى، وضرورة نبذ المهاترات وحملات التشهير التي تجتاح الساحة الكردية والكردستانية بين حينٍ وآخر. وانسجاماً مع هذه الرؤية انضم الحزب إلى «التحالف الديمقراطي الكردي في سوريا» وغيره من الأطر الكردية في مواجهة السياسات الشوفينية والعنصرية التي مارسها النظام السوري بحق الشعب الكردي وخاصةً بعد انتفاضة قامشلو عام 2004م. ليس هذا فحسب بل واستشعاراً بالخطر وإدراكاً لأهمية وحدة الصف الكردي تبنى الحزب شعار «بناء المرجعية الكردية» في مؤتمره الرابع المنعقد أواخر عام 2001م. وبذل جهوداً حثيثة لتذليل العقبات التي تعيق مسار بناء تلك المرجعية طيلة عقدٍ من الزمن؛ إلى أن دخلت سوريا بمجملها مرحلةً جديدة كانت تسمى بـ «الثورة» التي تحولت فيما بعد إلى فتيل صاعق لتفجر حرب أهلية مدمرة، بفعل طغيان الإسلام السياسي المدعوم من تركيا وجهات أخرى على المشهد العام. هنا من المفيد جداً أن نُعيد إلى أذهان البعض تلك التنبؤات والمخاوف والمحاذير التي استفرد بها الحزب في وقتٍ كان الكثيرون فيه يلهثون خلف انتصارات وهمية هنا وهناك ويتقاسمون المكاسب والمراتب سلفاً. ومن أهم مواقف الحزب تلك:
1- مغبة استسهال استخدام السلاح وعسكرة الحراك الجماهيري الهادف إلى التغيير الديمقراطي السلمي في سلوك وبنية النظام وسياسات الحزب الواحد في قيادة الدولة والمجتمع.
2- خطورة سيطرة الإسلام السياسي وخاصة جماعة الاخوان المسلمين التي لها سجل سيئ في مجال العنف والإرهاب، على المشهد السياسي العام للحراك الشعبي.
3- خطورة المساس أو التلاعب بالسلم الأهلي المجتمعي العام.
4- خطورة الاعتماد والرهان على الخارج، والوثوق بالشعارات البراقة التي تطلق هنا وهناك، وخاصةً على الجارة الشمالية تركيا التي لها أطماع قديمة- جديدة في سوريا.
5- خطورة الاعتقاد بأن النظام راحل لا محال، وتأكيد الحزب على أن هكذا تحليل ساذج لا يعتمد على قراءة واقعية صحيحة لموقع سوريا وطبيعة نظامه المتمايز عن غيرها من دول المنطقة.
لا يُخفى على أي متابع لمنشورات الحزب الدورية وبياناته وتصريحات سكرتيره، بأن «الوحـدة» من أوائل الذين أعلنوا وفي وقتٍ مبكر بأن الثورة قد انحرفت عن مسارها وفقدت مضمونها الجماهيري الديمقراطي وابتعدت عن مطالبها العادلة، وتحولت إلى أداة تخدم أجندات خارجية وخاصة التركية منها، وبناءً عليه أكد الحزب على خطورة المرحلة التي تمرُّ بها سوريا بشكل عام والشعب الكردي بشكل خاص، فركَّز على ضرورة الحفاظ على الحياد الكردي في الحرب الداخلية القذرة، وعدم الانزلاق مع أي طرف ضد الآخر، وفق مبدأ أن حل الأزمة في سوريا يمرُّ عبر الخيار السياسي السلمي وليس خيار العنف والعنف المضاد، مشدداً على أهمية حماية المناطق الكردية وذلك بالتكاتف والتلاحم بين الأطراف الكردية والحفاظ على السلم الأهلي فيها، ونبذ الخلافات البينية؛ كما حذَّر الأطراف الكردية من مخططات تركيا العدائية للشعب الكردي، وخاصةً بعد تحالف حزب «الحركة القومية MHP» العنصري مع «حزب العدالة والتنمية AKP» المعروف بتوجهاته الإسلامية السياسية والذي يقود تنظيمات إخوان المسلمين العالمية، حيث دق حزب «الوحـدة» ناقوس الخطر الذي هدد ولا زال الوجود الكردي في الشمال السوري نتيجة ذاك الحلف البغيض بين طرفين يجمعهما العداء الدفين لكل ما هو كردي وأينما كان. في وقتٍ كان فيه معظم الأطراف الكردية مشغولةً بأمور أخرى؛ إلى أن بدأت تركيا مع إرهابيي الإخوان المسلمين وميليشيات راديكالية أخرى بعملية العدوان على منطقة عفرين- أقصى شمال غرب سوريا واحتلالها في الربع الأول من عام 2018م، وشردت أهاليها الكُـرد- السكان الأصليين، ووطَّنت ولا تزال عوائل المسلحين المرتزقة والمستقدمين من الغوطة وأرياف حمص وحماه وإدلب وحلب فيها، ومن ثم احتلال سري كانيه/رأس العين وكري سبي/تل أبيض… أصبح واضحاً للقاصي والداني من الكُـرد الغيارى بأن الشعب الكردي في سوريا بجميع أحزابه السياسية ومختلف فعالياته المجتمعية وليس فقط حزب «الوحدة»- باستثناء المتوهمين- قد تخندق في المحور المعادي لسياسات تركيا والإخوان المسلمين بحكم أمر واقع مفروض عليه، أي تخندق في محور يضم (اليونان، قبرص، أرمينيا، مصر، الإمارات، السعودية، الجزء الأكبر من ليبيا، بعض أطرافٍ أوروبية) وجميع الأحزاب التركية والكردية والكردستانية التي تعارض سياسات أردوغان وحزبه والإسلام السياسي في المنطقة، هذا ما تفرضه المرحلة الراهنة وليس خياراً اختاره الكُـرد في سوريا، ولا يعني بأي شكلٍ من الأشكال بأن هذه الأطراف على توافق سياسي فيما بينهم، بل هو التقاء مرحلي يفقد محتواه بمجرد زوال الجامع المشترك، وهذه هي القاعدة الأساسية في بناء التحالفات أو الجبهات.
/الدانمارك