التعريب والتتريك والفرسنة مشاريع قومية شوفينية، هدّامة للقيم والمبادئ الوطنية، استهدفت الكُـرد خاصةً، الذين قُسمت أرضهم «كردستان التاريخية» بين أربع دول، فانقسم وتشتت نسيجهم القومي والاجتماعي، ولكن أبناؤهم انبروا للدفاع عن النفس ومواجهة الظلم والاضطهاد والمطالبة بحقوقهم القومية المشروعة، فقاموا بعشرات الثورات وتأسيس حركات سياسية ومسلحة عديدة، لا يتبنون مشاريع قومية مضادة للآخرين، بل في إطار رد المظالم وحماية الذات ونيل الحقوق والعيش بكرامة إلى جانب الشعوب الأخرى.
كان من الطبيعي أن يتعاضد أبناء الكُـرد ويتضامنوا مع بعضهم بعضاً، هنا أو هناك، لما هم من عرق واحد ولهم تاريخ ولغة مشتركة، يعيشون في أراضي أجدادهم المتلاصقة، حيث أن السياجات الحدودية جزأت أبناء العمومة والعشيرة بين أطرافها، فلا تزال وشائج القرابة قائمة.
ولكن! حصلت تطورات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية مختلفة في كلٍ من (تركيا، سوريا، العراق، إيران) واختلفت أنظمة الحكم فيها، وبالتالي اختلفت أوضاع الكُـرد ومسارهم السياسي فيها عن بعضها؛ فمن هم في الدولة السورية الناشئة- الجزء الأصغر- كانوا يعيشون في أريافٍ نائية غير متصلة على طول الشمال السوري، ومقطوعة عن مراكزها المدنية والحضرية الكبرى، إذ فقدوا الكثير من الصلات مع شمالهم وشرقهم، وتوجهوا صوب المدن الكبرى في الداخل السوري، كالذين فقدوا آبائهم وهم صغاراً، ليبقى في ذاكرتهم الحنين والشوق للقاء الأخ الأكبر، إلى الحلم الذي لا يفارقهم.
اليقظة القومية لدى كُـرد سوريا كانت مبكرة، فكانوا يمدون يد العون لإخوتهم في تركيا والعراق ويستقبلونهم، الذين كانت أوضاعهم الأسوأ، ونشطائهم وقادتهم كانوا في حراكٍ محموم، ونظراً لاحتضان سوريا لمعارضين كُـرد من البلدين ولفترات طويلة، إلى جانب عوامل أخرى، تأثر الحراك السياسي الكردي في سوريا بأفكار ونضالات قادة كردستانيون، ومنهم من باتوا رموزاً لحد القداسة لدى أوساط كردية سورية واسعة، إلى حد تابعية أحزاب سياسية لمحاور كردستانية، وبالتالي انتقلت تداعيات الاختلافات والأوضاع الكردستانية الحرجة إلى الحركة الكردية في سوريا بشكلٍ متواصل، وأثرت عليها سلباً، كما اختلط الدعم الكردستاني لها، من هذه الجهة أو تلك، بالتدخلات المباشرة في شؤونها، التي بطبيعة الحال جاءت متناقضة وفق حسابات وسياسات تلك الجهات.
عملت أوساطٌ سياسية كردية في سوريا على استقلالية قرارهم السياسي وإبراز خصوصية القضية الكردية فيها، ولكن مع اندلاع الحركة الاحتجاجية في 2011م، طغت شعاراتٌ رنانة ومزاجيات وركوب موجات التغني بالرموز والمناسبات الكردستانية وتوظيفها في الأجندات الحزبية، على العمل السياسي الكردي، فشوهته إلى حدٍ ما، ليغدو الاحتفاء أو التضامن مع ما هو كردستاني، بشكلٍ غير مناسب ومدروس، في هذه المرحلة الصعبة التي نمرّ بها، عبئاً ثقيلاً على الكُـرد في سوريا، تُزيد من حدة التشكيك والشوفينية نحوهم، وفي الترويج لتهمة الانفصال التي تُلاحقهم منذ عقود.
إن دغدغة المشاعر ورفع الشعارات الخلَّبية، واستحضار الرموز والأمجاد في غير محلها ووقتها المناسبين، بغية التحشيد والتوظيف في غايات ضيقة، لا تخدم القضية بشيء، بل تُشوه العمل السياسي وتُعمق الشروخ بين أبناء شعبنا، ونفقد البوصلة، ليتسلل الأعداء بيننا بأريحية.
أَجَل! للقضية الكردية في سوريا خصوصيتها، تحتاج للقرار السياسي المستقل لدى جميع أطراف حركتنا، وعلى أساسها تُرسم الاستراتيجيات والتكتيكات، وممارسة ما هو ممكن ومفيد، تفادياً لتأثيراتٍ سلبية ورهناتٍ غير محسوبة.