مع أن وجود الكُـرد في مناطقه التاريخية يمتد إلى ما قبل تأسيس الدولة السورية بمئات السنين، وسقف مطاليبهم- كمكون اثني متمايز- لا يتخطى تأمين الحقوق القومية المشروعة في إطار وحدة البلاد، إلا أن الإنكار والإقصاء والاضطهاد القومي كان ولايزال سمةً للسياسة الرسمية المتبعة حيالهم منذ عشرات السنين. أما إلصاق التهم الجاهزة بهم، من قبيل «إسرائيل الثانية» و»الانفصاليون»، جهلاً أو تجاهلاً بحقيقة الجغرافية والتاريخ والديموغرافيا، يدفع باتجاه شيطنة القضية الكردية من قبل الغالبية السائدة، وبكل أسف، بمن فيهم الكثيرين من دعاة «المعارضة الديمقراطية» وأصحاب «الثقافة والفكر».
مع انتقال الحراك السياسي السلمي في سوريا إلى التسلُّح والعسكرة، واضطرار النظام لسحب مؤسساته الخدمية والعسكرية وأجهزته الأمنية من أغلبية المناطق الكردية في الشمال، استوجب تشكيل وحدات حماية الشعب YPG والإدارة الذاتية، للدفاع عن النفس وإدارة شؤون المجتمعات المحلية، ورغم عديد الملاحظات على أداء هذه الإدارة والسلبيات والنواقص التي رافقتها، كان التعاطي الإيجابي معها كضرورة ملحة لملء الفراغ الإداري والأمني الحاصل هو الأساس من قبل معظم أبناء ومكونات تلك المناطق؛ لكن عوضاً عن اتخاذها نموذجاً وتطبيقها في مناطق سورية أخرى ولو بصيغةٍ معدلة، سرعان ما وقفت ضدها أوساط واسعة من المعارضة السياسية والمسلحة وألصقت بها تُهم باطلة وحاربتها بكل السبل، بل وشاركت الجيش التركي في العدوان على مناطق (عفرين، سري كانيه/رأس العين، كري سبي/تل أبيض) واحتلالها وممارسة الانتهاكات وارتكاب الجرائم بحق أهاليها.
الاعتداءات المتكررة من قبل الميليشيات الإرهابية على المناطق الكردية منذ بداية الأزمة السورية، من هجمات عسكرية وحصار واحتجاز للمدنيين الكُـرد، والتهديد المتكرر بإقامة «صلاة العيد» في جوامع عفرين في إشارةٍ لاحتلالها، والغزو الوحشي الغير مبرر لداعش على كوباني/عين العرب وتهجير كامل سكانها وما تبعه من تدمير للمدينة، وفيما بعد غزو واحتلال المناطق المذكورة الثلاث… كان موضع تجاهل لدى غالبية شركاء الوطن، بل وارتياحٍ لدى الكثيرين منهم؛ ولكن ما إن تم صدّ تلك الميليشيات وطردها وفك الحصار عن مدن وأرياف المناطق الكردية وإبعاد خطرها، وإسقاط «دولة الخلافة الإسلامية- داعش» المزعومة وتحرير معظم مناطق شرق الفرات، قامت الدنيا ولم تُقعد واتهم الكُـرد بـ «احتلال مناطق عربية» و «تهجير سكانها» من أكثر من جهة ومنبر، خلافاً للحقائق على أرض الواقع ومدى التعامل الإيجابي والإنساني مع أبناء جميع المكونات ومختلف المناطق، الذي عملت به الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي تُشكل وحـدات حماية الشعب والمرأة عمادها، وإن وقعت بعض الانتهاكات في ظل ظروفٍ قاسية وصعبة، ولم تكن على أساسٍ ممنهج.
احتلال تركيا لعفرين و سري كانيه/رأس العين و كري سبي/تل أبيض، بضوء أخضرٍ روسي تارة وأمريكي تارة أخرى، وبمشاركة ما يسمى «الجيش الوطني السوري» المرتبط بالائتلاف السوري- الإخواني المعارض، وتهجير سكانها وتوطين آخرين فيها، بهدف التغيير الديمغرافي، وما رافقه من انتهاكات وجرائم يندى لها الجبين… كان موضع دعم وتبرير ممن يفرض مواقعهم عليهم كما المنطق والوطنية إدانته بأشد العبارات.
المنهج التآمري الدولي والإقليمي التاريخي ضد الكُـرد، بدءاً من اتفاقيات سايكس – بيكو الاستعمارية وما تلتها، ووقوف الدول الغربية منذ مئة عام إلى جانب حليفها أنقرة في وجه كُـرد تركيا وحركتهم السياسية، وتغاضيها عن سياسات نظام الملالي العنصرية ضد كُـرد إيران، ناهيك عن دور «الاتحاد السوفيتي السابق» في سقوط جمهورية مهاباد، مروراً بالموقف الأمريكي المخادع والذي ارتقى لدرجة الغدر والخذلان في محطاتٍ تاريخية مفصلية مع كُـرد العراق، وصولاً إلى الموقف الروسي المخزي في السماح لتركيا بشن عدوانها على عفرين والضوء الأخضر الأمريكي المفاجئ لشن العدوان على شمال شرق سوريا… يبقى موضع استغراب واستهحان الكُـرد وحركاتهم السياسية جميعاً.
مع إدراك دور المصالح وشبكات العلاقات الدولية المعقدة، وكذلك التعقيدات الجيوسياسة للقضية الكردية، وتفاهمات الأنظمة المغتصبة لـ «كردستان» حول طمسها وإفشال القضايا الكردية، فإن جزءاً من أسباب ذاك المنهج التآمري الدولي والإقليمي التاريخي يعود إلى أبعادٍ تاريخية ذاتية خاصة بالكُـرد أنفسهم.
عذراً صلاح الدين!
أصواتٌ باتت تخترق مسامعنا، نحن الكُـرد، «إنكم أغضبتم الغرب حين حررتم بيت المقدس وطردتم الصليبيين» و «أغضبتم شيعة العالم حين أسقطتم الدولة الفاطمية في مصر»، في إشارةٍ إلى دور صلاح الدين الأيوبي الكردي الأصل، رغم أنه لم يكن للكُـرد كشعب ناقةً أو جمل من انتصاراته… وكأن القضية لم تسقط بقانون التقادم بالنسبة لأصحاب تلك الأصوات ومؤيديهم، ولا تؤخذ العوامل والظروف التي حكمت تلك المراحل التاريخية بالحسبان، بل يُحمِّلون الكُـرد الآن وزر «انتصاراتٍ وبطولاتٍ إسلامية»، مضت عليها مئات السنين.
أما أصحاب الفكر العروبي الإسلاموي اليوم، أيتام (أسود السنة) المزعومين، صدّام حسين وأبو مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي وغيرهم، ومريديهم من الجماعات الجهادية المسلحة، صعاليك الصحاري الجدد… يفتخرون بقادة الفتوحات العربية الإسلامية، خالد بن الوليد وعمر بن العاص وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، ولكن! ما إن تطرق مسامعهم مقولة «أصول كردية» لقادة إسلاميين حققوا انتصارات، يصابون بالذهول والخيبة، وكأن لسان حالهم يقول: ياليت لم يكونوا أكراداً.
أضف إلى ذلك يريدون العودة بنا إلى عصور التخلف والجهل باسم «السلفية» و «الجهاد في سبيل الله»، وإلى ما يشبه غزوات الجاهلية من قتلٍ وبقرٍ للبطون وسبي للنساء والغلمان وحرقٍ للمضارب بصيحة «الله أكبر»، يريدون أن نبرر احتلال تركيا لمناطق عديدة في شمال سوريا تفهماً لـ «الأمن القومي التركي»، ونعتبر دكتاتور العراق المقبور بطلاً ونبرر جرائمه بحق كُـرد العراق تفهماً لـ «الأمن القومي العربي». بل يريدون أن نصدق أن الشخص الذي أخرجته القوات الأمريكية من الحفرة في العراق والمحاكمات المطوَلة والمتلفزة له ولزمرته وعملية إعدامه والجثة التي استلمها أبناء عمومته ودفنها في قريته العوجة – قضاء تكريت، هو شبيه صدام حسين «الذي مازال حياً ولم يمت».
«السلام على من اتبع الهدى» – آيةً كريمة، والسلام بعقيدتهم يتخطى التحية المعتادة ويتجاوز سياسة التبعية والاحتواء للأنظمة الشمولية المتعاقبة إلى مالا يتقبله العقل والمنطق، إلى نفي وجود الآخر المختلف وهدر دمه؛ مما يدفع بالمرء للريبة والتساؤل عن صحة وصدقية فتاوى الأمس واليوم… قل: «أعوذ برب الفلق، من شرّ ما خلق».
عذراً صلاح الدين!
هل أخطئت أم كانوا ومازالوا مخطئين؟ هل ابتلينا بك أم بنا ابتليت، فقد بات أكثرنا يعتقد بأنك أخطئت على الأقل حين قدَّمت انتصاراتك مكرمةً لمن لم يصونوا العهد، ولم يكونوا أهلاً للعيش المشترك على أضعف إيمان، سواءً على الصعيد العربي أو الإسلامي العام.
لا شك أن مشكلتنا الرئيسية هي مع هذا الموروث الشعبي المتخلف الذي تنبثق عنه السلطات والحكام؛ لكننا على ثقة، بأنها عقلية آيلة للزوال، بعد سقوط آخر قلاعها في بغداد عام 2003 وفي الباغوز عام 2019، وتحول أصحابها إلى كونفدرالية إرهابية متنقلة، لتنفيذ أجندات «خليفة المسلمين الجديد أردوغان»، في حين اجتازت القضايا الكردية حاجز الإنكار والتعتيم والمحلية، ليضحى أبناء الكُـرد أكثر دفاعاً عنها وتعلقاً بها، ولتستحوذ على دعم وتأييد محبي الحرية والإنسانية والعديد من البرلمانات والمحافل الشعبية والدولية.
أخيراً!… إذا كانت جرائم صدام وسياساته قد وفَّرت الظروف الموضوعية لتشكيل اقليم كردستان العراق، فإن تضحيات الكُـرد في سوريا ونضالهم ودفاعهم عن قضاياهم العادلة، في زمنٍ تتدحرج فيه سياسات الرئيس التركي أردوغان في الداخل السوري نحو الهاوية، ستوفر الظروف لنيل شعبنا الكردي في سوريا حقوقه القومية المشروعة في إطار وحدة البلاد.
- جريدة الوحـدة – العدد 316 – كانون الثاني 2020 – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).