سنوات هوجاء مضت، اشتد هياجها حيناً وخفت، تأملنا منها كثيراً، كان حلمنا كبيراً، سرعان ما خابت آمالنا، وانكشفت أسرارنا، انتكست فيها راياتنا وأسقطت أرضاً أعلامنا، قتل فيها من قتل واستشهد من استشهد، الموت وحده يعرف العدد، تخلى فيها عن الوطن – طوعاً أو مكرهاً – من تخلى، ومن تبقى كان له نصيب وافر من التهجير والتشرد، البحار والبراري، الأنهار والسواقي، لم يرف لهم جفن، لم يهدأ لهم بال، من مسعى الآمال لمنحى الآجال، أزهقت أرواحنا ورمت أجسادنا في الرمال.
بلاد القارة العجوز الفسيح، كانت على شفا جرفٍ هارٍ، في مهب الريح، وقد أوشكت أن تغادرها الروح، هناك حط بعض رحالنا، وتركنا خلفنا كل آمالنا، في ظل التهجير الرهيب، أوهبتنا ما هو مريب، وجدت فينا ضالتها، حتف أنف عامتها، دون أن ندرك غايتها، أحيت بنا واحتها، وأخفت عنا سوءتها، ثم انتهى فيها الجمود، ودك في ذاتها الخلود، كلما قيل لها: أما اكتفيت، قالت: أما من مزيد؟!
لم نسع سعياً كافياً، لم نجد حلاً شافياً، صارت أرضنا وحشاً يرعبنا، وفي تركه يكمن خلاصنا، تدافعنا مع الجموع، وجهتنا جميعاً (جنة الخلود)، بقربنا، بجوارنا، أم في أصقاع الأرض، فهي ظلت هدفنا المنشود، وبات الوطن هو الفاقد والمفقود.
في سابق الزمان، حينما ابتدأت قصتنا، قلنا أنها ثورتنا، وسارت بنا الأيام، حينها احتد الرهان، كان لنا اسم، صار لنا عنوان، كان لنا قول، صار لنا شأن، شخصت الأبصار نحونا، التفت الجموع حولنا، وكل له بنا شأن، فقدنا بعضا من ذاتنا، خسرنا شيئا من ثباتنا، لكن كسبنا الرهان، تعاضدنا حيناً، تساندنا حيناً، فكانت وحدتنا خير عنوان، في دارنا وبقربنا، كان الاطمئنان، نذهب لأعمالنا، نمارس نشاطاتنا، ونأوي إلى فراشنا، ويمر الوقت بسلام، هيبتنا، قدرتنا، راهننا، حراكنا، مسار مستقبلنا، لم يكن يوماً مثلما كان، أوشك الحلم أن يصبح حقيقة، وأوشكت الحقيقة أن تظهر للعيان، لم تكن ثمة رضى، فالرضى صعب الإتيان، لم يكن ثمة عدل، فالعدل موطنه ذات الإنسان، منذ أن طردناه للسماء، لم نعد له في الحسبان، ما دمنا في زمن البهتان.
أبينا أن نهنأ بما لدينا، وأبى معنا الزمان، ومن حولنا لهيب وطوفان، وهل يسلم المرء، إن حامت حوله لهيب النيران، تراخى بعضنا عن العمل بإتقان، والبعض الآخر يهد البنيان، ينهش في الجسد المنهك أصلاً، ويستجير من الرمضاء بالنيران، ترصد بعضنا بعضاً، وهدد بعضنا بعضاً، تصيدنا الأخطاء والهفوات، تقاذفنا الاتهامات وتناسينا المنجزات، كان لبعضنا النصيب الأكبر من بدع الزمان، من تسامى على الجراح زادوه جروحاً على الجراح، والنائي بنفسه نصبوه بطل الكفاح، تعامت الأفئدة والأبصار، واستبدل الأخيار بالأشرار، صارت السفاهة عزّ، والتعقل (عار)، أهي بؤس السياسة، أم عجاف الوطن، قفر المكان أم صيرورة الزمان؟
تساهل بعضنا، تجاهل بعضنا، تفاجر بعضنا وتناطحوا مثل الثيران، أنا ومن بعدي الطوفان، تغافلوا عما هو آتٍ، أو ربما تحضر بعضهم له بثبات، تهامسوا حيناً بالحق بسرور، وصار الهمس فسقاً وفجور، أعلن نفسه غلاً كامناً في الجحور، فرووه بأجمل الكلمات، أظهروه كسماء صافيات، تنيرها شمس بإشعاعات دافئات، الصف خر صريعاً، وصار في طي النسيان، هكذا أرادوا له وهو ما كان، حمله الهاربون عبر الشطآن، فبات في البحر من نصيب الحيتان، من أنقذ نفسه من الجحيم، وصار في (الجنان)، كان في حل من أي شأن، وصار الوطن مسلك مغترب، يأتيه سائحاً كغيره من البلدان.
تجمع البغاة من كل مكان، في سباق مع الزمان، تنادوا، تضافروا، تدبروا، تحضروا، وجلنا في ثبات تام، بعضنا تصدروا وسائل الإعلام، ليصبحوا (محامي الشيطان)، ينطقوا بالزور والبهتان، ويصفقوا للإثم والظلم والعدوان، يستجدون على بني قومهم، ويتعاونون مع العدوان، فبئس الفعل، وبئس السعي كيفما كان، كل له ثمن، وكل له شأن، بات الأمان في خبر كان، تلاشت العناوين والأمكنة، تهاوت الرايات والأوسمة، فبتنا حفاة عراة، في الأزقة والطرقات، داري، مرابع طفولتي، حقلي ومزاري، باتوا مرتعاً لقذارات الكون، بهيئة بني البشر من أتباع (السلطان)، يعيثون فيها فساداً، يدمرون البشر والبنيان، ولا يراعون حرمة الأديان، ولا قوانين الله، ولا الكون ولا الإنسان، وبعض من بني أمتي، ينفون عنهم الشرور، وينسبون إليهم الإحسان، يحملون كل الموبقات، فقط لبعض (الزعران)، أهو قدرنا، أم قصر نظرنا، أم شرور أنفسنا، أم غدر الزمان، أم اجتمعت كلها فينا في آن؟!!.
حينما وقعت الواقعة، ليس لوقعتها، ولا لضرورتها، قلنا: مهلاً يا أبناء جلدتنا، حلماً يا قادتنا، تسامحوا، تصافحوا، تحابوا، وتسلحوا بالصبر والإيمان، فاليوم، والغد، ليس كالأمس، ولا كما كان، لنترك الخلاف جانباً فله وقتٌ وظرفٌ وبرهان، لسنا بصدد توزيع المنافع، بل في وجه المدافع والطيران، الموت يترصدنا جميعاً، وقاب قوسين أو أدنى من الوقت والزمان، كنا صوت (نشاذ) – من بين نشاذات – كنا كالتائه العميان – من بين عميانات – كل يغني على ليلاه، وليلانا وليلاه تنادي يا ويلتي، يا ويلاه، نسوا أو تناسوا، تسهوا أو تعاموا، بأننا والألفة صنوان لا يفترقان، تهاوت على رؤوسنا – (بقدرة قادر) – كل مصائب الزمان، كأننا من نهبنا المتاحف، ونحن من دمرنا الأوطان، أنحن من أوجدنا الأرامل، ونحن من أفسدنا الإنسان، كأن تاريخنا ملأى بالبغي، وما كنا يوماً إلا في صفوف الطغيان!!.
تهنا حيناً، ضعنا حيناً، تشفى بعضنا ببعض، ارتقى بعضنا على أكتاف بعض، وبعضنا يحاول أن يُركع البعض، لم تردعهم هول الآلام، استفقنا على مأساتنا، نلملم جراحاتنا، ومن جوارنا، ظل يهددنا، (سلطان) بني عثمان، ويسعى لوأد تجربتنا، وتدمير قدرتنا في بناء الأوطان، ظن بعضنا أنه لن يعيد الكرة، ظن بعضنا أن الوضع قد استقر، وسننعم بالأمان، توالت النداءات، تتالت اللقاءات، وأتتنا التهديدات، من شرقنا، من جوار دارنا، من مرابع الإخوة، على لسان أتفه العربان، اعتقدناها «مزحة ثقيلة»، لكن، لم نشعر بالاطمئنان، وظللنا نراوح في المكان.
مازال في الأفق بارقة أمل، مازال ما هو بالإمكان، فقد أهدرنا وقتاً كثيراً، تأخرنا وكان الخسران، لكن ثمة معارك ما زالت في الحسبان، ما بين اليوم والأمس شؤون وشأن، لن نعيد الدهر للوراء، بل نرسم لمستقبلنا، لقادم الزمان، ولا زال بعضنا يجري خلف الأوهام، تعلو في عروقه منسوب الخذلان، يعتقد جازماً، أن له من دون غيره، أعظم شأن، ولا شيء بدونه يسري سريان، إن بدونه يتوقف الكون عن الدوران، أن (جورج بوش) آخر، سيخرج إلينا لأجله في قادم الأيام، يلبي رغباتنا، يستوفي شروطنا، يصافحنا رغماً عنا، ويهددنا بأغلظ الإيمان، إن عقاباً شديداً ينتظرنا، إن لم نوفي بوعدنا بإحسان، لكن هيهات، تلكم كان لذاك الوقت، لذاك المكان، من ذاك الشخص لتلك الأنام.
ولى زمن المحبة، وأصيبت النفوس بالهذيان، لأيهما سيكون الرجحان، أيبقى الغل سائداً، أم يرتوي بالهدى والغفران، إن غفر بعضنا جانباً، فثمة ما هو عصي عن الغفران، هل تنتشل نفوسنا الملوثة من أسنها – بقدرة قادر – وتعود إلى الهديان، هل تعود العقول لرشدها، وتكف عن بث سموم من صنع الجيران.
أفسدت ذواتنا، أفسدت حياتنا، تهنا في متاهات الدوران، وأَضعنا العنوان، (دهوك) تغير وتبدل، وأكله الدهر في دروج النسيان، لم يعد الوضع كما كان، «لا يصلح العطار ما أفسده الدهر»، بل يترك كل شيء للزمان، لكن قدرنا أن نستمر، وأن نخرج الأغلال من الصدور، فقد يبني الصفح ما هدمه الفجور.
– ألمانيا