القسم العاممختارات

العودة إلى عفرين المحتلة… مشاهد مؤلمة، ثكنة عسكرية ومربعات أمنية

شوكت كرداغي*

عفرين

لم يكن قد مضى على التهجير القسري من عفرين إلى مناطق الشهباء سوى أيام قليلة، حتى أصبحت ضرورة العودة إلى عفرين حديث الساعة لدى الكثير من العوائل الكردية، وقد بدأت حركة العودة تباعاً ووضعت سلطات الاحتلال ومرتزقتها العراقيل أمامها، إلى أن تمكنت  في الأول من نيسان 2018 القافلة الأولى والوحيدة من الآليات والمركبات المحملة بالمصرّين على العودة إلى مناطقهم أن تشق طريقها عبر الحواجز العديدة والمخاطر المتعددة، لتحط رحالها في عفرين المحتلة، حيث ملاعب الطفولة ومراقد الآباء والأجداد… إلا أن من رأى تلك المشاهد المأساوية ليس كمن سمع عنها كما يقال،  فمُحال أن لا تصدم وفي كل ركن وزاوية قصة عشق سرمدية ورواية تراجيدية، غاب عنها أبطالها كما الشهود، حتى غدت عفرين عروس بوشاح أسود، لما آلت إليه أحوالها بعد الغزو التركي المشين لها.

دخلنا عفرين وقتها، كان لا بد وأن تشد نظرك  مئذنة مسجد طريق قرية ترندة وقد طالتها كغيرها من مآذن قذائف أسلحة تركيا ذات التوجهات الإسلامية، والتحطيم المتعمد الذي طال تمثال كاوا الحداد رمز التحرر من العبودية، صالات وأقبية للسكان الأصليين سُلبت وحُولت إلى مساجد بفتاوى جهادية ومدارس إلى مقرّات عسكرية بقرارات تركية، وإذ بدأ مسلسل تعذيب الكُـرد وابتزازهم تحت يافطة التعامل مع الإدارة الذاتية.

طال النهب المحلات التجارية عن بكرة أبيها، وكتب عليها فصيل الجبهة الشامية أو السلطان مراد أو أحرار الشرقية… الخ، أبواب المنازل كانت مفتوحة على مصراعيها بعد أن سُرق منها في البداية ما خف وزنه وغلى ثمنه، وكانت الأغذية المحفوظة مرمية في الشوارع وعلى الطرقات تحسباً لتسميمها، وكذلك محفوظات الصور التذكارية مع الألبسة النسائية ملقاة إلى خارج المنازل بحجة عدم تطابقها مع النصوص الشرعية لكن لا ضير أن تُرمى تحت أقدام المارة أو عجلات العربات العسكرية.

كانت الشوارع خالية من السكان الأصليين إلا ما ندر في حين تكتظ بمن تم توطينهم من الغوطة الشرقية أو من شرق حمص وحتى من الأحياء الدمشقية بموجب مصالحات ثنائية، سرعان ما تكشفت أن أغلبهم ذوو خلفيات تكفيرية؛ سيارات قادة الجماعات المسلحة كانت مزينة من الخلف بصور دكتاتور العراق المقبور صدام حسين وبعض الرموز التكفيرية ومن الأمام ترفرف عليها الأعلام التركية.

مسلحون ذو لحى طويلة وشعر أطول مُوَسَمين بأعلام الثورة وبشارات عسكرية تركية؛ ما لم تشاهدهم بأم عينيك لن تصدق أن في القرن الواحد والعشرين هناك أناسٌ في سوريا بهذه الهياكل وبهذه العنجهية؛ رغم تفشي ظاهرة الأمية وجهلهم بفك الأحرف الأبجدية فإنهم كانوا ولازال خبراء بفنون السرقة والابتزاز واللصوصية، وسقطت آخر ورقة توت عن عوراتهم حين تقدموا القوات الغازية لاحتلال أراض من بلدهم وضمها لدولة أجنبية. يُحيُون في عفرين ودون حياء ذكرى الثورة السورية تحت راية الأعلام التركية. ويملؤون سماء عفرين  بالرصاص الحي ابتهاجاً بفوز حزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات البرلمانية، ومع هذا يتباهون زورا (بتحرير عفرين) من (الملاحدة الكفار والجماعات الانفصالية)، إشكاليةٌ لا تعبر إلا عن غباء وانفصام شخصية أكثر من كونها تعبيراً عن أحقاد عنصرية أو طائفية والتي أججتها الجماعات الإسلامية المتطرفة والإخوانية تحت رعايةٍ أردوغانية- تركية.

تفجير ألغام بدعوى مخلفات حربية، سيارات مفخخة تسوغ على أنها من أفعال قوات وحـدات حماية الشعب YPG، جرحى وقتلى نتيجة المناوشات المسلحة اليومية بين الميليشليات الموالية لتركيا بسبب خلافٍ على النفوذ أو على سرقة ممتلكات السكان الأصليين، بيتاً كان أو سيارة أو أرض أو حقل زيتون أو ربما دراجة نارية وغيرها. ضغوطات مختلفة تُمارس على الكُـرد المتشبثين بمنازلهم، بغية دفعهم للهجرة وتركها، وكذلك لتوجيه رسائل إلى الكُـرد الغائبين عن المنطقة والمهجرين قسراً بعدم التفكير بالعودة وتحت طائلة التعرض لكافة صنوف الانتهاكات والجرائم.

أكثر ما يغيظ المرء أن عفرين التي كانت تتربع منذ مئات السنين كملكة على سفوح جبل الأكراد وسهولها، في أقصى الشمال الغربي من سوريا، والمعروفة بتنوع تضاريسها واعتدال مناخها وجمال طبيعتها وكثرة منتزهاتها ومقاصفها، والمشهورة بفرقها الموسيقية وسائر الفنون الشعبية وبحبها للعلوم والثقافة والتحرر وللسلم والتعايش مع الأخر وبعشقها للأعراس والأفراح… تحولت في غضون أيام إلى ثكنة عسكرية وكل قرية وحي من أحياء المدينة إلى مربعات أمنية ومرتعاً لفلول كل الجماعات السلفية والجهادية والتكفيرية، حتى غدت وكأنها تعيش في القرون الحجرية. إنها عنصرية تركيا الطورانية وهمجية من والاها من المرتزقة الذين لا يعيرون اهتماماً لأية ضوابط أخلاقية أو إنسانية.

 أما المجالس المحلية التي شكلها الاحتلال فلا حول لها ولا قوة، حيث لم تتمكن حتى الآن من تأمين مياه الشرب للمدينة، وينحصر عملها في تصديق بعض العقود أو منح تصاريح خطية للتنقل بين القرى، قلما تعترف بها الحواجز المسلحة؛  بالمحصلة هي لتلميع وجه الاحتلال وتنفيذ الأجندات التركية. أما ما نقرأه على صفحات التواصل الاجتماعي وما يتم توثيقه من عدة جهات، ليس سوى غيض من فيض، لا يسعنا الخوض في التفاصيل، لأنها كثيرة ومتشعبة.

ما من شك أن العدوان على عفرين والإجرام بحق أهاليها، وكذلك العدوان على شمال شرق سوريا والإجرام بحق أهاليه، يعدَّان جرائم العصر، وكلاهما وقعا في سياق الصراع على سوريا بين عددٍ من الدول والذي عمَّق من النزاع السوري الداخلي وفاقم من أزمته؛ ولكن لابد أن تؤول الأوضاع إلى حلٍ سياسي، ورغم الظروف المأساوية فإن مخرجات الأزمة السورية لن تكون على حساب القضية الكردية العادلة ولن تكون في صالح تركيا والجماعات الراديكالية.

* جريدة الوحـدة – العدد 314 – تشرين الثاني 2019 – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى