لا شك أنّ سوريا تمرّ بمحنةٍ شديدةٍ في هذا الظرف الصعب الذي يلقي ظلاله المأسوية على كافة فئات الشعب السوري بمختلف أطيافه وتنوّع مكوّناته، هذه المحنة هي محنة الإنسانية، محنة حقوق الإنسان، محنة السلم الأهلي؛ إنّها محنة الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد واستهداف هذا الشعب وضربه ببعضه البعض من قبل القوى الإقليميّة والدولية الكبرى، بغية تفكيك المجتمع السوري والقضاء على الفسيفساء الجميل الذي يشكّله هذا المجتمع، وبالتالي إضعافه لتمرير المخطّطات الإقليمية والدولية وتشكيل مناطق نفوذ مختلفة في الجغرافيا السورية.
باعتقادي بات مكشوفاً لدى الغالبية العظمى من أبناء المجتمع السوري ما تمارسه هذه القوى من خلال العمل على جعل البلاد ساحة حربٍ بين أطرافٍ خارجيةٍ متنازعةٍ واستخدام فئات من الشعب السوري كأداةٍ للاقتتال بحججٍ كثيرةٍ وذرائع مختلفة الغاية منها ترسيخ نفوذها والحصول على مكاسب مرجوّة ليس فقط في سوريا، إنّما في مختلف المناطق التي يتم فيها التنافس، سواء أكانت هذه المناطق معلنة أو غير معلنة، بمعنى آخر أنّ هذه القوى تحاول السيطرة على مناطق نفوذ في سوريا لكسب الصفقات التي يمكن أن تقيمها بين بعضها دون أن تكون للشعب السوري مصلحة فيها لا من قريب ولا من بعيد، وذلك بعد أن نجحت هذه القوى في جعل الشعب السوري يعيش أسوأ حالات الانقسام والتشرذم حتى على مستوى الأسرة الواحدة، ناهيك عن المعاناة من القتل والتهجير والظلم والتعذيب والإرهاب، علاوة على ذلك الخراب والدمار والهدم في البنية التحتية في أغلب المناطق في سوريا. ومن المؤسف جداً أن ينجرّ الكثير من الناس وراء هذه الممارسات ويكون شريكاً في القيام بها واستخدامها في النزاع الدائر في سوريا دون أن يعلم أو بعلمٍ منه بأنّ الحرب هي بالأساس حربٌ بين قوى مختلفة وأنّ الشعب السوري أصبح وقوداً لإضرام نار الحرب في أرض بلده وبين أبناء بلده. آخر هذه الممارسات هو الغزو التركي في شمال شرق سوريا، وجاء هذا الغزو بحجّة (القضاء على الإرهاب) وإقامة (منطقةٍ آمنة) في الشمال السوري. كلنا يعلم أنّ الاستعمار، عندما كان يريد السيطرة على منطقةٍ ما أو بلدٍ ما، كان يتحجّج بالوصاية أو الحماية أو الانتداب فيحتلّ تلك المنطقة أو ذلك البلد، والآن حجة الدولة التركية هي تلك المعلنة.
كيف يمكن أن يقتنع العالم بهذه الحجّة وهذا الادّعاء طالما تحاول الدولة التركية أن تغزو منطقةً بقوّة السلاح، وتمارس الإرهاب بأبشع صوره وتعمل على ممارسة العنف بأفظع أشكاله بحقّ المدنيين الآمنين، فضلاً عن دعمها لجهات إرهابية مختلفة تعمل على الذبح والقتل والنهب والسلب باستخدام الأسلحة المختلفة؟ ثم كيف يقتنع العالم بحجة إقامة منطقة آمنة من خلال غزو منطقةٍ آمنةٍ قائمة ومستقرّةٍ باستخدام قوة السلاح العسكري الهائل والعمل على تهجير السكان الآمنين من مناطق سكنهم وترحيلهم من ديارهم بالحرب والقوة والاستيلاء على ممتلكاتهم؟! أين المنطقة الآمنة التي ادّعت تركيا أنّها ستقيمها في ريف حلب الشمالي بعملية (درع الفرات)؟ وأين المنطقة الآمنة التي ادّعت أنّها ستقيمها بعملية (غصن الزيتون) في عفرين؟! أين المنطقة الآمنة في إدلب؟! وهل هذه المناطق التي سيطرت عليها تركيا هي بالفعل خالية من الإرهاب، والناس فيها يعيشون بأمنٍ واستقرار؟!
لا يمكن تفسير الحجج التركية إلا بأنّها محاولة لاحتلال الشمال السوري وبسط السيطرة على جزء مهم من الجغرافيا السورية ثم التوغّل في الاتّجاهات المختلفة في المنطقة والامتداد إلى أماكن أخرى بشكلٍ تدريجيّ لتحقيق حلم امبراطوري استعماري يدور في رأس المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم رجب طيّب أردوغان، كذلك للدخول بقوّة في الصفقات مع القوى الإقليمية والدولية لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب ومناطق النفوذ، أضف إلى ذلك توجيه الرأي العام الداخلي التركي نحو القضايا الخارجية لإلهائه عن المسائل الداخلية وصرف تفكير الشعب التركي عن المشاكل التي يمكن أن تنفجر في المستقبل القريب؛ كل ذلك بعد أن فشلت تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتحوّلت من دولة من المفترض أن تكون ذات توجّه ديمقراطي علماني إلى دولةٍ ذات توجّه استبدادي تختبئ خلف الستار الديني وتستغلّ هذا الستار الديني لأغراض سياسية واقتصادية واستعمارية خاصةً بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة ومحاولة هذا الحزب الاستفراد بالحكم والتوجه باتجاه الاستبداد بعد قمع كل صوت معارض له، ومحاربة كل توجّه مختلف عن توجّهه.