تأسس حلف شمال الأطلسي الناتو (NATO) قبل سبعين سنة (1949) كمعاهدة عسكرية، لتجنب تكرار الحرب العالمية الثانية، عن طريق احتواء ألمانيا والوقوف أمام طموحات الاتحاد السوفيتي السياسية ومواجهة مخاطرها العسكرية في ذلك العصر. هذا وقد ترسخت وظيفة الحلف وشرعنت بعد الإعلان عن تأسيس حلف آخر يواجهه، الذي انبثق عن المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي وهو (حلف وارسو) في عام (1955) تحت مسمى: معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المشتركين، هذا وقد ترسخ دور الحلفين بتصاعد المنافسة بين الشرق والغرب كما بين شطري ألمانيا الشرقية والغربية إبان الحرب الباردة.
• اختفاء العدو
المفارقة الرئيسة في قصة الناتو بعد مرور سبعين سنة على تأسيسه وثلاثين سنة على انهيار جدار برلين تكمن في أن الحلف الذي نشأ لمواجهة الخطر الشيوعي استمر في البقاء بعد زوال الاتحاد السوفيتي، بل ابتلع الناتو معظم الدول الشيوعية في أوربا الشرقية بما فيه الدولة التي كانت بمثابة مركز حلف وارسو أي بولونيا. كما شجع الحلف ومازال يشجع انضمام دول أوروبية ناشئة ومكيروسكوبية مثل آخر الأعضاء المنتمين للناتو (دولة الجبل الأسود) المنبثقة من يوغسلافيا السابقة. فهذه المفارقة باتت تفصح عن خلل وظيفي للناتو نفسه، وهو باختصار اختفاء العدو الذي ينبغي أن يتم مواجهته. لذلك نجد أن الجهاز البيروقراطي للحلف انشغل في البحث عن وظائف جديدة له، كالتدخل في بعض مناطق النزاعات مثل البوسنة والعراق وليبيا وسوريا.
في الذكرى السبعين لنشوء هذا الحلف العسكري – السياسي – الأيديولوجي ومع تغيير بيئة التأسيس، يجد العديد من أعضاء الناتو صعوبة في إيجاد توافقات ومشتركات بين سياسات مختلف أعضائه. وهذا ما تفجر يومي 3 و4/12/2019 في اجتماع القمة بلندن الذي كان بمثابة احتفالية لتمديد بقاء الحلف أكثر من أن يكون برنامج عمل. لقد كان قادة الناتو مختلفين تماماً مثل اختلاف الثقافات ودرجة القوة والموقع الجيوسياسي، لذلك بات الحفاظ على وحدة الخط العام للحلف مشكلة حقيقية، وهذا ما برر وحفز الرئيس الفرنسي الشاب للإعلان مسبقاً عن الموت السريري أو الدماغي للحلف قبل انعقاد القمة وأكد فيها على رأيه من جديد، ليكون رأيه أول تعبير أوربي صريح عن صعوبة الجمع بين تسع وعشرين دولة بثقافات وسياسات مختلفة لمدة طويلة قادمة. فالرئيس ماكرون شَخَّصَ المشكلة بعقلية فرنسية فكرية وثقافية بعيداً عن تسطيحات أغلب الرؤساء الآخرين، خاصةً ترامب الذي استعجل في المغادرة بسبب الامتعاض من مواقفه والسخرية من تصرفاته.
• المسألة الكوردية والإرهاب
المتغير الأوربي الذي جسده ماكرون تركز على نقطتين: الأولى الدعوة إلى استئناف حوار استراتيجي مع موسكو، والثانية مطالبة تركيا بتقديم توضيحات حول عمليتها العسكرية ضد وحدات حماية الشعب الكردية، الحليف الرئيسي للدول الغربية في المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». كما قطع ماكرون الطريق على أردوغان للتشويش على المسألة الكردية بالتأكيد على أنه «ليس لدينا التعريف نفسه للإرهاب»، (بحسب فرانس 24)، في إشارة الى رفض طلب تركيا بتصنيف قوات الوحدات الكردية في سوريا على أنها إرهابية. ترافق ذلك مع ميل صريح لفرنسا وعدد من الدول الأوربية لتثمين دور القوات الكردية في محاربة الإرهاب، وتسليط الضوء على المسألة الكوردية وترابطها مع المشكلات الشرقأوسطية من جديد. وبالتالي الدفع باتجاه تأمين دعم ناتو للمسألة الكردية على العكس تماماً من توجهات تركيا. لذلك لم يبخل ماكرون في توجيه نيران انتقاداته نحو تركيا، مشيراً إلى أنها هاجمت مقاتلين أكراد دعموا الحلفاء ضد تنظيم داعش. كما اتهم القوات التركية بالعمل أحياناً مع مقاتلين مرتبطين بتنظيم داعش في عملياتها في شمال سوريا. وقال: «عندما أنظر إلى تركيا أرى أنها الآن تقاتل ضد من قاتلوا معنا. وأحياناً تعمل مع مقاتلين على صلة بداعش». وأكد ماكرون أن تصرفات تركيا ضد المقاتلين الأكراد الذين ساعدوا الحلفاء في القتال ضد التنظيم الجهادي تظهر الحاجة إلى تحسين التنسيق. وهذا ما شَكَّلَ أحد أبرز المتغيرات التي طرأت على جدول أعمال الحلف والتي تجنبها البيان الختامي.
• وظيفة تركيا
أما المتغير الآخر الذي ظهر، فقد تجسد في الكيفية التي جعلت دولة بائسة وفقيرة كتركيا التحقت بشكل ذيلي بالحلف عام 1952، أن تتحول إلى لاعب رئيس داخل الحلف وتتفاوض على فرض أجنداتها على جدول أعمال الحلف؟ وبالتالي باتت تلعب تركيا بورقة كسب ود الصين وروسيا. لدرجة أن خرقت أنظمة الحلف واشترت منظومة صواريخ اس-400 من روسيا، دون معرفة دقيقة لجهة وكيفية استهداف هذه الصواريخ لأعضاء الحلف نفسه! لقد بات المتغير الجيوسياسي التركي هذا إحدى إشكالات ناتو الكبرى التي تعمق معضلات الحلف وتشتت وظيفته، فكيف لتركيا الدولة الهزيلة التي انضمت للحلف منتصف القرن العشرين أن تتحول إلى لاعب وجهة وازنة تفرض شروطها وسياساتها!؟ يبدو أن ذلك قد حدث بفضل سياسات الادارة الأمريكية الانهزامية والمترددة وكذلك التناغم والدعم الألماني لتركيا، وبالتالي فجرت فرنسا الخلاف نيابة عن مجموعة من أعضاء الحلف.
تموضع تركيا الجديد غيرت من وظيفتها أيضاً، فبدل أن كانت تعمل لصالح الحلف 100% باتت تطرح أجنداتها، لقد انضمت في ظروف كانت تركيا علمانية ودولة رأسمالية تابعة، تلخصت وظيفتها أواسط القرن العشرين بمواجهة ولجم حركة التحرر العربية الناهضة، وكذلك لتأمين منصة أمامية للتجسس ومهاجمة الاتحاد السوفيتي السابق عند اللزوم، كما تهيأت لمنع استقلال وتطور جمهورية أرمينيا السوفيتية، لكن كل هذه الوظائف قد اختفت في الوقت الحاضر. وباتت تعمل تركيا كقطب خاص ومستقل داخل الناتو، فهي تتدخل في كل دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي تحت عنوانين وأجندات الاسلام السياسي المتشابك مع ديناميات المجموعات الجهادية، في حين أنها تخطط في الجوهر للاستيلاء على سوق النفط والغاز في الخليج وشرق المتوسط بالتفاهم مع روسيا، لتتحول بدورها إلى امبريالية ناشئة. ولذلك حق لماكرون أن يتساءل: «كيف يمكن أن تكون تركيا عضوا في الحلف وتعمل مع روسيا وتشتري منها أشياء؟» في إشارة إلى شراء أنقرة نظام اس-400 الدفاعي الروسي.»
ديناميكية ماكرون الشاب المرتكزة على الخلفية السياسية والفكرية الفرنسية فَجَّرت الأزمة بإعلانه عن الموت الدماغي للناتو وهذه حقيقة يتفق معه الكثيرون رغم نفي ترامب وأردوغان لهذا التوصيف، فالمقصود بالتشخيص الفرنسي أنه لا توجهات إستراتيجية ولا سياسية واضحة للناتو مستقبلاً، لأنه تحول إلى نادٍ عسكري كامتداد لحلف سياسي، أمني وإيديولوجي، تأسس في حقبة مختلفة تماماً، حيث بدأ يفقد وظيفته التي أنشأ من أجلها موضوعياً. هذا ويؤيد العديد من الخبراء هذا التوصيف بالاعتراف أن الحلف يعاني من مشكلة سياسية عميقة. ويحال ذلك إلى الضعف في الرؤية الإستراتيجية، فالأوروبيون ليس لديهم مشروع استراتيجي لكيفية تأمين الدفاع عن أنفسهم بعد عشر أو خمس عشرة سنة، حين ينسحب الأمريكيون من أوروبا. مع أن استطلاعات الرأي التي نشرتها الصحافة الألمانية تظهر أنه في ألمانيا تميل غالبية واضحة من المواطنين إلى النأي عن التوجهات العسكرية للولايات المتحدة وذلك بنسبة (55 %).
• الخيمة المهترئة
في الختام: الناتو لم يَعُد حلفاً ضرورياً لأي دولة أساسية فيها، باستثناء دول شرق أوربا، لأنه فقد وظيفته الأساسية. أما انتظار البحث عن عدو جديد لتجديد وظيفته وتبرير وجوده فقد لا يلقى استجابة، إذ لا روسيا قادرة ولا مهتمة بسباق التسلح ومواجهة الحلف عسكرياً ولا حتى الصين في هذا الموقع.
الثابت أن الدول الرأسمالية الغربية قد اعتادت على مظلة الناتو في مرحلة شيخوخة الرأسمالية المعاصرة، فكل دولة منها تسعى لحماية أمنها ومصالحها تحت خيمة الناتو المهترئة، وبالتالي باتت أجندات الأعضاء المتضاربة عاملاً مساعداً لتمزيقه. ولكن المتغير الرئيس هو أن اختلاق العدو وصناعته قد لا يعطي نتيجة سريعة، فإشارة فرنسا الذكية إلى أن الإرهاب السيبراني أو الإسلاموي هو عدو الحلف لم تروق لتركيا ولا ترتقي إلى ضخامة قوة الحلف ولا يمكن أن تستهلك ميزانيتها الهائلة المقررة من قبل بيروقراطيي الحلف. علماً أن المبالغ الضخمة هي فقط التي أثلجت صدر ترامب مصرحاً بسرور عنها عند عودته إلى واشنطن: «لقد ضغطت بنجاح فائق على قادة دول الناتو، حتى جعلتهم يدفعون /130/ مليار دولار سنوياً و /400/ مليار دولار إضافية لمدة /3/ سنوات. لا توجد زيادة بالنسبة للولايات المتحدة، فقط الاحترام العميق!» ويبدو أن هذا الرقم المالي هو آخر مؤشرات ثوابت ناتو الخالية من أي قيمة إنسانية أو ديمقراطية، وإنما تؤسس بالضرورة لعمليات ابتزاز متبادل، وبالتالي مزيد من السرقة للشعوب الفقيرة.