منذ أن تأسس أول تنظيم سياسي للكُـرد في سوريا عام 1957، كانت تهمة «الانفصال» تلاحقهم، رغم أن برنامجه كان يهدف إلى نيل «الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية» للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد وبالنضال السياسي السلمي؛ فقد وُجهت تهمة (اقتطاع جزء من الأراضي السورية وإلحاقها بدولةٍ أجنبية) للآلاف من المناضلين الكُـرد في سجون ومحاكم سلطة البعث، ولُصقت مقولة (خطر على أمن الدولة) على جبين الآلاف من الطلبة والعاملين في سلك الدولة من الكُـرد، بغية فصلهم من مواقعهم بقرارات قره قوشية أمنية- حكومية، عدا الاضطهاد والتعريب ومشاريع عنصرية استهدفت وجود الكُـرد التاريخي على أرضهم.
فالكردي مُتهمٌ ولا زال بـ (الانفصالية) منذ الولادة وعليه إثبات العكس! وفق منطق الشوفينيين من العرب والترك والفرس، الذين لم تَرُق لهم تلك النجاحات النسبية والمكتسبات التي حققها الكُـرد في شمال سوريا خلال ثماني سنوات مضت، من دفاعٍ عن النفس وتأسيس إدارة ذاتية وانتصارات على جحافل الإرهابيين واهتمامٍ وتضامنٍ دولي.
ليس لدى الكُـرد بجميع أطرافهم السياسية مشاريع انفصالية، سوى مشروع الدولة اللامركزية أو الفدرالية وبأدنى صيغة عملية هي «الإدارة الذاتية» التي لا تدخل في خانة الانفصال بجميع معايير علم السياسة والفكر، بل هي صيغة مُثلى للدول ذات التعددية الإثنية والدينية، والتي شهدت حكومات مركزية استبدادية على مرّ عقود، وكذلك حقائق ووقائع الجغرافيا والديموغرافيا لا تمنح الكُـرد في سوريا فرصة تأسيس إقليم متصل ومتماسك موحد في شمال سوريا يؤهلهم للانفصال عنها.
لم يأتي الكردي بأمريكا إلى سوريا، ولا بقراره ستخرج! فالجيش السوري والمؤسسات الأمنية خرجت مكرهةً من مناطق شمال وشرق سوريا تحت ضغط الحركة الاحتجاجية ونشاط ما سمي بـ (الجيش السوري الحرّ) الذي تفكك أمام ميليشيات إسلامية راديكالية، بل وسلَّم مناطق شاسعة لتنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين، الأمر الذي استدعى تَشَكُل تحالفٍ دولي لمناهضة الإرهاب بقيادة أمريكا، والذي ساند وحـدات حماية الشعب والمرأة YPG-YPJ في تحرير كوباني من داعش وفيما بعد مساندة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» في تحرير شرق الفرات بالكامل وإعلان النصر على داعش في الباغوز، دون أن ترفع «قسد» يوماً العلم الأمريكي على صدر عناصرها أو مقراتها أو على مباني مؤسسات الإدارة الذاتية أو في المكاتب والأماكن العامة، فالعلاقة الكردية مع أمريكا كانت بداعي الدفاع عن النفس ودحر الإرهاب وليست بنية الانفصال عن سوريا أو توظيفها في معاداة حكومة دمشق أو المعارضة السورية، بل دعت «قسد» وغطائها السياسي مجلس سوريا الديمقراطية «مسد» والإدارة الذاتية مراراً و لاتزال للحوار معها حول كافة المسائل والمشاكل.
أوساطٌ من أهل الحكم وجماعات معارضة والائتلاف السوري- الإخواني، مصرون في تعليق فشلهم ونتائج دورهم في دمار البلد ومآسيها، على شماعة «الانفصالفوبيا الكردية»، بل ويلتقي أكثريتهم مع أجندات الطورانية- الإخوانية التركية في القضاء على أي نجاحٍ للكُـرد وبزوغ فجر تحررهم.
لا يخجل عناصر ومتزعمي ميليشيات موالية لتركيا ومسؤولون لمعارضةٍ مزعومة من رفع نيايشين العثمانيين والعلم التركي فوق رؤوسهم وضمن مكاتبهم وفي الساحات وعلى مباني مؤسسات مناطق سيطرتهم، بل ودون حياء وضع البعض منهم فولارات عنق – تركمانية ملونة- بربطات من العلم التركي؛ عدا عن دعوة البعض للتعامل بالليرة التركية بدلاً عن السورية في بعض المناطق وغيرها من ممارسات قبول أنشطة سيادية تركية على أجزاء واسعة من سوريا، ورفع خطابات التبجيل والطاعة لـ «الزعيم أردوغان».
ليس بدافع الحرص على سوريا أرضاً وشعباً، يُتهم الكُـرد بـ (الانفصالية)، بل لتبرير الاعتداء عليهم وتجاهل حقوقهم وإقصائهم من المشاركة في رسم مستقبل البلد، وما حجم العدوان على مناطقهم وممارسة الانتهاكات والجرائم والتغيير الديموغرافي بحقهم إلا دليل ساطع على ذلك.
في منطق الشوفينيين والإسلاموين الحانقين، يحق لهم معاضدة «أبناء جلدتهم وإخوانهم في الدين» والتدخل في شؤونهم، بمشارق الدنيا ومغاربها،! ولكن حرامٌ على الكردي وخيانةٌ أن يتضامن ويساند أخاه الكردي أينما كان، وإن قد وقع عليهم ظلمٌ تاريخي بتقسيم أرضهم بين أربعة دول، ورغم احترامهم للحدود الدولية ولانتمائهم إلى البلدان الناشئة على أنقاض الدولة العثمانية.
لا يفيد البلد ومصلحة الشعب السوري بكل مكوناته سوى الحوار مع الكُـرد وتَقَبُل وجودهم ودورهم وحقوقهم في إطار حوار سوري – سوري عام يفضي إلى عملٍ جدي لحل الأزمة السورية المستفحلة.