لا يمكن بطبيعة الحال الرمي بكامل ثقل الانكسارة التي مرَّ بها الكُرد السوريون أو «روجآفا» منذ التاسع من أكتوبر، عندما غزا الأتراك وعملائهم من تنظيم الإخوان المسلمين بفرعه السوري وباقي التشكيلات المسلحة المتطرفة، مناطق شمال شرق سوريا، عقب قرار الأمريكيين الانسحاب منها وترك قوات سوريا الديمقراطية وحيدة كي تدافع عنها أمام ثاني قوة في الناتو، وهو محض مستحيل، على ما وصف حينها بـ «خيانة واشنطن و ترامب» لحلفائهم ممن قاتلوا ضد تنظيم داعش الارهابي وفي دحرّ دولته المزعومة… فمن الانصاف والحكمة العودة إلى الأسباب الذاتية للموضوع، والسؤال هل أخطأ الكُـرد، وإن أخطئوا: أين تم ذلك، ثم لماذا لم يتم تصحيح الأخطاء من قبل القادة الذين كانوا على إطلاع بما لديهم من أوراق ووعود، خاصةً عقب سقوط عفرين، أي قبل أكثر من عام ونصف من تكرار ذات المأساة في «سريه كانيه\راس العين» و»كري سبي\تل ابيض»؟
منذ بدء الأزمة السورية عام 2011م، عندما أرسل «حزب العمال الكردستاني» كوادره من الكُـرد السوريين إلى داخل البلاد، وجد البعض ذلك موضع ارتياح بحكم أن كُـرد سوريا لا يمتلكون الخبرة القتالية للدفاع عن أنفسهم، ومن المعلوم أن «العمال» هو القوة الأكثر تنظيماً من الناحية العسكرية من بين الأحزاب الكُـردية، وبالتالي كان إعادة هؤلاء موضع استحسان من قبل شريحة معينة من عامة الشعب، ممن لم يكن لديها اعتبار لما قد تصل له الأمور فيما بعد، فيما كان ذات الحدث موضع استفهام من ساسة كُـرد في سوريا، خارج منظومة «العمال الكردستاني»… فالأخير (شئنا أم أبينا) مُصنف على (لوائح الإرهاب في أمريكا وأوروبا)، سواءً كان ذلك التصنيف مُنصفاً للكُـرد في تركيا أم غير مُنصف.
إلى حدٍ ما، يمكن تشبيه الارتياح الذي خلقه عودة الكوادر السورية من «العمال الكردستاني» إلى «روج آفا» بالارتياح الذي عاشته «شنكال\سنجار» إبان حملة التطهير العرقي والديني الذي شهدته على يد داعش عام 2014م، فما كان مهماً حينها لدى المنطقتين الجغرافيتين هو حماية حيوات الأهالي، دون النظر في خلفيات الجهة القائمة بذلك، أو الخوض في التبعات السياسية اللاحقة، خاصةً وأن أنقرة تستغل وجود «العمال الكُردستاني» في أي مكان لتبرر هجومها عليه.
لكن مع تطور الصراع السوري وتحوله من سلمي إلى مُسلح، وتَمكُّن الكُرد السوريين المتأثرين بفكر «العمال الكُردستاني» من التحول إلى راسمين لمستقبل ذاك المكون المُهمش، أثار هذا التحول الكثير من التخبط لدى الأحزاب الكُردية السورية، خاصةً مع إصرار أنصار «حزب الاتحاد الديمقراطي» المتأثر بفلسفة «عبد الله أوجلان» على رفع الرموز والصور التي تدل بشكل مباشر على «العمال الكردستاني»، دون الانصات للتحذيرات التي نبهت من المخاطر المستقبلية لتلك الممارسات وعواقبها في منح أنقرة ذريعةً لغزو واقتحام المناطق الكُردية شمال سوريا مستقبلاً، سيما وأن غالبية الكُـرد السوريين يدركون بأن تركيا أساساً ليست بحاجة إلى مُبرر أو ذريعة للغزو، فكيف ويُقدَّم لها حجج إضافية على طبق من فضة… فتلك هي أنقرة التي لطالما جنَّدت المتطرفين والتكفيريين من بقايا داعش والنصرة والعاملين تحت مسمى «الجيش الحرّ» بغية حصار المدن الكُردية والتنكيل بأهلها وشنَّ حروب شعواء عليها.
«تركيا لا تحتاج إلى مُبرر للغزو» عبارة لطالما رفعها أنصار «الاتحاد الديمقراطي PYD» لتبرير رفضهم الاستجابة لدعوات عدم رفع رموز وشعارات (تُعتَبَر مستفزة لتركيا) وتنسيق العلاقة مع «العمال الكردستاني» بما لا يُحمِّل أعباء إضافية على الكًـرد السوريين في مواجهة الدولة التركية، وبالتالي يحق للمتابعين طرح الأسئلة حول عدم رغبة «الاتحاد الديمقراطي» في إدراك منح الغزاة حججاً للغزو، والسؤال أيضاً لماذا يقوم ساسة «الاتحاد» بإحراج الحلفاء الغربيين برفع رموز حزبٍ (مصنف إرهابياً) لديهم (بغض النظر عن عدالة ذلك)، ولماذا لا يُطالب الحزب أنصاره ومؤيديه بشجاعة الكف عن النشاطات التي تضرهم أكثر مما قد تنفعهم؟
إن كانت غاية «العمال الكُردستاني» حماية الكُـرد في سوريا، فقد تم لهم ذلك عقب تَوَسُّع الغزو الداعشي ودخول جهات دولية لدعم «وحدات حماية الشعب»، عندما تشكل التحالف الدولي عام 2014م، ومن ثم تشكيل جسم عسكري يجمع الكُـرد مع مختلف المكونات من العرب والسريان وغيرهم ضمن «قوات سوريا الديمقراطية» عام 2015، إضافةً إلى طرح مشروع سياسي واضح المعالم يختزل المطالب الكُردية والعربية المعارضة الغير مُرتهنة لأنقرة، في الحصول على حكم ذاتي تحت مسمى «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا»، وهو المشروع الذي ضم مناطق كالرقة ودير الزور والطبقة ومنبج، مع التيقن من استحالة إسقاط النظام الحاكم في دمشق بالشكل الذي تمنته أنقرة لسنوات، كون البديل هو إخضاع كامل البلاد لسطوة الأخيرة عبر ذراعها في سوريا المتمثل بتنظيم الإخوان المسلمين.
منذ العام 2015م، كان حرياً بـ «العمال الكردستاني» توجيه رسالةٍ إلى كوادره- خاصةً لمن هم في مراكز القرار والمسؤوليات- الذين لا يزالون متواجدين في «روج آفا»، مفادها بأنهم أدوا المهمة الموكلة إليهم، وساهموا في تدريب الكُرد في سوريا على حماية أنفسهم، وها قد بات لهم مشروع سياسي واضح المعالم، سيعملون على ترسيخه في مستقبل البلاد، وأن موعد العودة إلى الجبال قد حان، فنصرهم في تلك المعركة سيكون نبراساً لانتصارات أكبر قادمة لا محالة.
لم تكن يوماً «قوات سوريا الديمقراطية» تُشكل خطراً على الأمن القومي التركي وكانت الحدود الفاصلة آمنة على مدى سنوات، رغم ذلك كان حرياً بها منذ تأسيسها، الإعلان بشكل رسمي أنها تمنع رفع الصور والرموز التي لا تمت لسوريا وشعبها بصلة، وهو ما كان يتوجب على «الإدارة الذاتية» إقراره أيضاً، بإنزال جميع الصور والرايات غير السورية من على مراكزها ومقرّاتها، وبالتالي البرهنة البصرية للعالم أن لا ارتباط لهم بأي جهة خارج الحدود السورية، وأنهم من يقودون أنفسهم بأنفسهم، فلا تعود تلك ذريعة ولا حجة لعدو في غزو أراضيهم حاضراً أو مستقبلاً!
وطالما قال قادة «حركة المجتمع الديمقراطي» التي يشكل «حزب الاتحاد الديمقراطي» أحد أركانها، أنهم لا يستمدون قوتهم من التحالف الدولي أو أمريكا أو روسيا، وإنما يستمدونها من شعبهم، ووفاءً لمن يؤيدونهم، ويَرهنون مستقبلهم بسياساتهم، يتوجب أن يكونوا أهلاً لذلك، فلزامٌ عليهم بأن يبعدوا المخاطر التي قد تُهدد من يناصرهم في قضية شعبٍ عادلة، حيث أن هذا الأمر في حد ذاته أكبر من أي حزب أو رمز.
لقد أبلى أبناء «روج آفا» وشمال سوريا من المقاتلين ضمن «وحدات حماية الشعب» و»قوات سوريا الديمقراطية» حسناً، ودمائهم التي أُريقت لم تذهب سُداً، فقد أكسبتهم احترام العالم بأسره، وإن لفعلهم ذاك شأن عظيم في مستقبل عموم الكُـرد وسوريا، ويمكن أن يكون الناتج أكبر وأعظم، لو تمالك القادة الكُـرد السوريين ذواتهم، وأبدوا مصلحة ومستقبل عموم شعبهم على مصلحة حزبٍ بعينه.
* إعلامي كُردي سوري