كبشر نملك شبكة من الأحاسيس والمشاعر، من حقنا أن نحزن بل نذرف الدموع، وكمجموعة منكوبة من البشر لهم معاناة مركبة اجتماعية وسياسية من حقنا أن نغضب ونلعن التاريخ والجغرافيا والبشرية جمعاء… لكن من منظار علمي وضمن سياق تقييم الأحداث وتناول قضية شعبنا الكردي ومآلاتها المأساوية لا يجوز ولا جدوى من التعامل العاطفي مع أحداث جسام مرَّت بها منطقتنا وانصبت كسيول جارفة على شعبنا الكردي في السنوات الخمس الأخيرة (احتلال كوباني، جينوسايد سنجار، خسارة كركوك وحرب ما بعد الاستفتاء، احتلال منطقة عفرين، المشروع الاستئصالي التركي والغزوة الأخيرة لحكومة أردوغان والفصائل الإرهابية الموالية له)، لا جدوى من النحيب وتخوين كل العالم والافتراض على أن نحن الكورد ممثلين بحركة سياسية متخشبة وبقيادات سياسية معطوبة وحدهم على حق. يجب التوقف ملياً، ينبغي التريث والالتفات إلى الوراء والتفتيش عن أخطائنا الفادحة أولاً، لأنها المسبب الرئيس لكل هذه النتائج الكارثية.
إن إلقاء اللوم دائماً على الآخر، الآخر العدو والآخر الصديق والحليف بأنهم سبب كوارثنا وأنهم خانونا هنا وهنالك، ما يجري هي ظاهرة مرضية، نعم هو مرض نفسي في المقام الأول وسياسي في المرتبة الثانية. أما لماذا هو نفسي؟ فمن المعروف أن أحد أبرز سمات مرض النرجسية والإعجاب بالذات والتمحور حول أمجادها هو أن المريض – النرجسي لا يعترف قط بخطئه وإنما يحيلها على الآخرين، فبدلاً من أن نعترف بأخطائنا السياسية، نفترض أن الحلفاء والأصدقاء خانوا العهد.
أما الخطأ السياسي الجسيم الذي وقعنا فيه ومازلنا غارقين في مقاومة دواماته هو أننا تمسكنا بمشروع قومي رومانسي، غنائي شاعري دون تلمس فيزيائي جاد لجوانبه التطبيقية. فقوميتنا الموضوعية وثقافتنا الأصيلة لا تؤهلنا لوحدها لنكون أصحاب مشروع سياسي كبير معقَّد وخطير من الناحية العملية. فاستمداد المشروعية من الخرائط السكانية والديمغرافيا التاريخية غير كافية لنجاح مشروع استقلالي بهذه القوة والطبيعة الثورية والتغييرية الكبرى على ساحة الشرق الأوسط. يجب التخلص من غنائية ورومانسية وتاريخانية مشروعنا الكوردستاني بشجاعة فائقة، والتعامل مع الحدود وموازين القوى وتكنولوجيا الطائرات المسيرة بدون طيار بموضوعية وعقلية نقدية.
فلكل مشروع سياسي حامله المتين القادر على حمله وبالتالي نقله إلى ميدان التطبيق فالنجاح، وإلا أنها ستبقى محض أحلام يقظة واستدراج للأعداء، بل خدمة لهم.
كل هذا التقديم هو محاولة لقراءة المشهد السياسي الكردي والسوري إثر الهجوم العدواني المتعدد الأوجه الذي تشنه حكومة أردوغان وحلفه الإرهابي الجهادي – العنصري، كما أن هذا التقديم هو محاولة للتركيز على بعض المسائل المفتاحية للكشف عن نقاط الضعف ولاستجماع القوة وتوفير عوامل المقاومة والنصر.
باختصار لا يمكن لنا أن نتقدم وننجز أي مشروع سياسي قومي وطني أو اجتماعي إلا بعد الاشتغال الجاد على النقاط الرئيسة التالية:
1- نقد موضوعي حاد بالجملة والمفرق لمجمل تنظيماتنا ومسيرة نضالنا القومي على الصعيد السوري في المقام الأول.
2- ترتيب الأولويات والتخلص من إرث الرومانسيات القومية والعصبيات الأيديولوجية الثقيل. فمن الضروري على الصعيدين السياسي المرحلي والاستراتيجي إعادة النظر بالمسلمات واليقينيات الكبرى التي كنا نؤمن بها، ينبغي تدقيق الأولويات بشجاعة فائقة، والتخلص من عبء الشعارات الرنانة ونبذ استخدامها للتعبئة الحزبية وصراعاتها العقيمة.
3- التعامل مع قضية الشعب الكردي ومع المسألة السورية الراهنة كونها مشاريع سياسية، تتطلب برامج واقعية تنفيذية وليس التموضع فيها بصفتها قضايا عادلة نبيلة وأخلاقية، فليس في سوق السياسة الإقليمية والدولية الراهنة أي قيمة لما هو عادل (أو إنساني)، فلم تكن السياسة في أي زمن لا أخلاقية ولا إنسانية كما هي في السنوات العشر الأخيرة.
4- التوقف بجدية وحذر شديدين أمام مشروع أردوغان – الذئاب التركية الرمادية، فكما أكدت عليه منذ بدء غزو عفرين أكرر بأن مشروع أردوغان والدولة التركية العميقة يستهدف هندسة كل سوريا ديمغرافياً وايديولوجياً، وبالتالي السطو عليها سياسياً واقتصادياً وجعلها جسر عبور للهيمنة على مجمل العالم العربي وصولاً إلى الخليج العربي.
5- إعطاء أهمية كبرى ومَرتَبة الأولوية القصوى لمواجهة الغزو الاستيطاني لحكومة أردوغان ومن خلفه حلفاءه. فمن غير المنطقي أن يباشر أردوغان بهكذا مشروع ليس له سابقة في التاريخ، والوصول لحد مناقشته من قبل الأمم المتحدة (ممثلا بشخص أمين عام الأمم المتحدة المعطوب السفيه غوتيريش)، نعم من غير الوارد أن لا يكون هنالك قوى كبرى، بل دول وقطاعات واسعة خططت وتدعم في الظل هذا المشروع الاستيطاني الأيديولوجي الإسلامي الكولونيالي بحلة جديدة تماماً. الذي يتجاوز حد الادارة الذاتية أو قوات قسد، أو حتى القوى الكردية الصاعدة، فهو داعم ومتقاطع بطريقة أو أخرى مع المشروع الصهيوني والمشروع المذهبي الإيراني لتلغيم وتفجير المنطقة والدول العربية كافة. وذلك لبناء دويلة جهادية إسلاموية تشكل قاعدة لمحاربة مجمل الدول العربية.
6- لا يمكن مقاومة هكذا مشروع لا يقل خطورة عن وعد بلفور إلا بتضامن عربي – كردي يستقطب سائر المتضررين من الهجمة العثمانية الجديدة خاصة من أبناء شعوب المنطقة الأصيلة كالأرمن والسريان واليونان. فكل شعوب المنطقة وخاصة القوى الكوردستانية الفاعلة والحية مدعوة اليوم لإعادة النظر بتحالفاتها، وتخندقاتها الصغيرة، وكذلك مطالبة بمراجعة شاملة ومعمقة لمشاريعها السياسية التي لم تعد تواكب زمن الغزو التركي الجديد. يجب ضبط بوصلة الأولويات، إعادة ترقيم وجدولة الأعداء، ووضع حلف حزبي العدالة الإسلاموي والقومي التركي (AKP – MHP) في الخانة الأولى من حيث خطرها وعدوانيتها. وبالتالي يجب التحضير لمقاومة شعبية طويلة الأمد.
7- لم يسبق لأي حكومة من الحكومات المعادية للشعب الكردي والشعب السوري أن أفصحت عن مخططاتها العدوانية بهذا الشكل السافر، وبدأت بتنفيذه، مثل حكومة أردوغان الحالية بنهجها الشوفيني الطوراني، وعلى الرغم من أن تركيا قد تنزلق الى مستنقع حرب طويلة، وقد تسبب لها هذه الحرب كارثة اقتصادية، لكن يجب أن لا نستخف بهذه الحرب – المخطط. فهو وشيك التنفيذ، لذلك ينبغي استجماع كل الطاقات والجهود، العمل على التأسيس لتحالفات واسعة خاصة مع شرائح عديدة من المجتمع السوري، وإعادة إحياء العمق الاستراتيجي العربي، فلأول مرة تقف الحكومات العربية بشكل رسمي ومعلن الى جانب الشعب الكردي وترفض إزاحته عن أرضه (بيان جامعة الدول العربية)، فالمواقف العربية هذه تُمهِّد وتُسرِّع لتأسيس جبهة عريضة من كل القوى الصديقة بما فيه (الاتحاد الأوربي)، للعمل معاً لصد ومواجهة هذه الغزوة الأخيرة المسعورة للاحتلال التركي وأتباعه.
من المهم في مواجهة مشروع أردوغان الاستيطاني العدواني على سوريا وكل كوردستان أن يتم التأسيس لمشروعنا الديمقراطي البديل. الخطوة الأولى والأهم التي يجب أن نخطوها اليوم قبل الغد، هي بناء جبهة عريضة للقوى الديمقراطية السورية، بناء الثقة، إحياء روح التعاون والتضامن في المجتمع السوري، فتح قنوات الحوار مع حكومة دمشق بشفافية وعلنية، وصولاً إلى سوية مواجهة مشروع إلغاء سوريا وتحويلها إلى إمارات حرب وولايات جهادية متناحرة.