منذ عدة سنوات ألجأ لقراءة كتب مضامينها بعيدة عن أجواء الحروب والصراعات، خاصة تلك الخارجة عن حقل اهتماماتي، فأكتشف بقراءتها درجة جهلي لمواضيع وجوانب جوهرية في الحياة. من هذه القراءات كتاب: إدارة الأولويات الأهم أولاً، تأليف (ستيفن كوفي و روجر ميريل ترجمة د. السيد المتولي حسن)، يمكن من بين كل تفاصيل الكتاب (500 صفحة) استخلاص نتائج مختزلة، في غاية الأهمية تلامس مآسي أيامنا الراهنة، هي نتائج صادمة ببساطتها، أولها أننا نقضي معظم عمرنا دون المعرفة والتميز بدقة بين درجة أهمية الخطوة الأولى والثانية في حياتنا! فرغم بساطة هذه المسألة لكنها شائكة تماماً، فأغلب البشر يتخبطون دون معرفة تحديد خطوتهم الأولى والأهم. النقطة الثانية هو أن الإنسان قد يعيش معظم حياته وهو في حالة طوارئ، يسير مستعجلاً، لاهثاً وراء العديد من القضايا التي قد لا تكون مهمة وربما لا تحتاج كل هذا الاهتمام والتضحيات… على ما يبدو ما يصح في هذا الصدد بخصوص الأفراد يصح تعميمه أيضا على سلوكية الجماعات، بل الشعوب والأمم.
أفترض بحسب موازين (كوفي و ميريل) أعلاه، أن ثقافة الشعب الكردي السياسية عموماً وثقافة قادتها وطبقاتها السياسية خصوصاً قد عانت ومازالت تعاني من مرض عدم معرفة الأولويات، فضلاً عن استمرارية العيش في حالة طوارئ فكرية، حالة طوارئ مزمنة وممتدة تاريخاً منذ أكثر من مئة عام، فرضت من قبل بعض الساسة والنخب على مثقفينا وقطاعات واسعة من شعوبنا، وإلا ما معنى أن لا يعرف الكردي من هو عدوه الأول ومن هو صديقه الوفي؟! بعد كل هذه التجارب المريرة؟ ما معنى أن نعيش حالة طوارئ منذ عشرات السنين دون أن نؤسس لسلطة محلية رشيدة، وذلك بحجة بناء دولة أو سلطة مترامية الأطراف. ليس لكل ذلك من معنى دون أن نخطو الخطوة الأولى الصحيحة باتجاه تحقيق جوهر الهدف وليس شكله؟! ما معنى أن لا يتم التدقيق في حقيقة ما ستقدمه لمجتمعنا تلك السلطة المستقلة المفترضة، وهل ما سيتحقق عبر مشروع السلطة المستقلة محصور ومرهون بوجودها؟ أم يمكن تحقيق وتمرير العديد من الأهداف المرجوة من قيامها، قبل أن تقوم وتعلن أصلاً؟ ما أود تأكيده: من الضروري على الصعيدين السياسي المرحلي والاستراتيجي إعادة النظر بالمسلمات واليقينيات الكبرى التي كنا نؤمن بها، ينبغي تدقيق الأولويات بشجاعة فائقة.
كل ما ذكرته سابقاً يأتي بمناسبة الغزو العسكري الأردوغاني وتداعياته الخطيرة على مناطق شمال سوريا وغربي كوردستان وما نتج عنها من كوارث بشرية ومئات من الضحايا الأبرياء. وكامتداد واستذكار للسجالات التي أجريتها مع العديد من الأصدقاء على مختلف السويات وعبر برامج متلفزة خلال الأعوام الماضية والتي كنت أجزم خلالها – وإن كان الجزم شطح من العاطفة – أن حكومة أردوغان وبالترابط مع مؤسسات الدولة العميقة التركية هي العدو الأول للكورد وستحارب أي مشروع تحرري كوردستاني. ما حدث أخيراً أكد صحة تلك القراءة والاستشراف، بل تجاوزه ليتأكد عداوة أردوغان للمسألة السورية وتعامله مع سوريا أرضاً وشعباً على أنها غنيمة، بدءاً من سرق اقتصادها ومعاملها وحتى الخردة في أسواقها المدمرة، وصولاً إلى جعل مواطنيها اللاجئين في تركيا أسرى وعجينة يصنع بها ما يشاء، يرحلهم أينما أراد ويستوطنهم بأي رقعة تخدم أجنداته.
مشروع أردوغان السياسي والاستيطاني والعسكري الذي أعلن عنه بطريقة سافرة أمام الأمم المتحدة خطير وغير إنساني وعدواني لدرجة لا يصدق. فلم يسبق لرئيس أي دولة أن قام بطرح هكذا مشروع حتى داخل حدود دولته؟! نحن إذن أمام شكل جديد للحكم لا هو دكتاتوري ولا هو فاشي ولا هو قومي عنصري ولا هو استعماري فقط، وإنما مزيج من كل ذلك.
ما هو واضح وملح أن القوى الكوردستانية الفاعلة والحية مدعوة اليوم لإعادة النظر بحالة الطوارئ الفكرية التي تمارسها منذ عقود، وكذلك بمراجعة شاملة ومعمقة لمشاريعها السياسية. ضبط بوصلة الأولويات، إعادة ترقيم وجدولة الأعداء، ووضع حلف حزبي العدالة والقومي التركي (AKP – MHP) في الخانة الأولى منها. فلم يسبق لأي حكومة من الحكومات المعادية للشعب الكردي أن أفصحت عن مخططاتها العدوانية بهذا الشكل السافر، وبدأت بتنفيذه مثل حكومة أردوغان الحالية بنهجها الشوفيني الطوراني، وعلى الرغم من أن تركيا قد تنزلق إلى مستنقع حرب طويلة، وقد تسبب لها هذه الحرب كارثة اقتصادية، لكن يجب أن لا نستخف بهذه الحرب – المخطط… ينبغي لملمة كل الطاقات والجهود، التأسيس لتحالفات واسعة خاصة مع شرائح عديدة من المجتمع السوري، وإعادة إحياء العمق الاستراتيجي العربي، فلأول مرة تقف الحكومات العربية بشكل رسمي ومعلن إلى جانب الشعب الكردي وترفض إزاحته عن أرضه (بيان جامعة الدول العربية)، فالمواقف العربية هذه تمهد وتسرع لتأسيس جبهة عريضة من كل القوى الصديقة بما فيه (الاتحاد الأوربي)، للعمل معاً لصدّ ومواجهة هذه الغزوة الأخيرة المسعورة للاحتلال التركي وأتباعه. من المهم في مواجهة مشروع أردوغان الاستيطاني العدواني على سوريا وكوردستان أن يتم التأسيس لمشروعنا الديمقراطي البديل، وهي الخطوة الأولى والأهم التي يجب أن نخطوها اليوم قبل الغد، إن كان لنا بصر وشيء من البصيرة.