محافظة إدلب هي أحد الأوراق الأساسية في حوزة تركيا، تبرزها حين اللزوم في الصراع الدائر عبر مقايضات مع الأطراف الأخرى لتحصن موقعها وتحسن دورها في الأزمة السورية، فإدلب من الناحية الفعلية واقعة تحت الوصاية التركية عسكرياً وإدارياً بشكلٍ أو بآخر، وتصريح الضابط التركي بالتدخل عسكرياً لفرضها في حال تعذّر الحل السياسي إشارةٌ واضحة إلى تثبيت تلك الوصاية كنتيجةٍ عملية للصفقة الأخيرة المبرمة في أستانا (حيث استعاد الجيش السوري والروسي مؤخراً السيطرة حتى المنطقة العازلة بما فيها خان شيخون لفتح الطريقين «M4» و «M5» على غرار سابقاتها من الصفقات تحت عنوان «خفض التصعيد»، وذلك لقاء الحصول على الضوء الأخضر من موسكو وطهران لغزو مناطق الإدارة الذاتية (شمال شرق الفرات) بمشاركة الفصائل الإرهابية الموالية لها- ما تسمى بـ»الجيش الحر»، كما أن ادعاءه بتطوير البنية التحتية والمرافق العامة فيها ليس إلا دعاية إعلامية لتضليل الرأي العام وتجميل صورة تركيا، وترغيب اللاجئين السوريين لديها بالعودة والاستيطان فيها، مع استمرار الأزمة السورية والرئيس التركي أردوغان يلوّح دوماً بالحل العسكري للتهرب من أزماته الداخلية المتفاقمة سياسياً واقتصادياً… والسعي لتصديرها إلى الخارج، وكذلك لإشغال الجيش التركي بالمناورات والمغامرات وعدم منحه فرصة التفكير والتحضير للانقلاب عليه، كما هو متوقع بسبب فشل سياساته الداخلية والخارجية المسماة بـ»صفر أصدقاء»، والحديث عن شن الحرب على النظام السوري دعائي أكثر مما هو فعلي، ويندرج أيضاً ضمن الحرب الإعلامية الخاصة، لخلط الأوراق وتشتيت الأنظار، لأنها مكلفة جداً، وستكون فواتيرها باهظة وتداعياتها كبيرة على الأطراف المتصارعة عامة وتركيا خاصة، ثم أن قرار الحرب والسلم تتخذها مراكز القرار في الدول العظمى وليس تركيا. إن أية مغامرة تركية في إجراءٍ أحادي الجانب في الداخل السوري عسكرياً أو سياسياً دون تفاهمٍ أو اتفاقٍ مسبق مع باقي الأطراف ستواجه معارضة شديدة، ولا سيما من روسيا قبل غيرها بحكمها الحامي الصديق والحليف الوثيق للنظام السوري، وستكون العواقب وخيمةً.
ما تسمى بـ»المنطقة الآمنة» تجاوزاً لا تُحقق شروط التعريف الأممي لها (وفق قوانين مجلس الأمن الدولي) وهي موضوع التفاهمات المعلنة بين أمريكا وتركيا والتي تعتبر ترتيبات أمنية عسكرية، حيث يكتنف الغموض بعض نقاطها، ولم يكشف النقاب عن تفاصيلها لأسباب تخص الوضع الداخلي في تركيا بالدرجة الأولى، وهي في حقيقتها مبادرة أمريكية عاجلة تهدف إلى لجم الاندفاع التركي والتهديد باجتياح منطقة شمال وشمال شرق الفرات وزعزعة الأوضاع فيها، التي تشكلت نتيجة تحريرها من داعش بدعمٍ ومشاركةٍ من التحالف الدولي، حيث أن قوات سوريا الديمقراطية «قسد» هي الشريك الميداني المعتمد على الأرض، وكذلك لإفشال اتفاق أستانا الثلاثي والتقارب الروسي- التركي، وتهدف المبادرة أيضاً إلى التوفيق بين حليفي أمريكا لمنع حدوث احتكاك مباشر بينهما، الأول تركيا بضمان هواجسها الأمنية والحدّ من تحسسها المزمن تجاه النهوض الكوردي، والثاني «قسد» بحماية الإدارة الذاتية ومنجزاتها، والحفاظ على الأمن والاستقرار في مناطق نفوذها، وهذه «الآلية» مفتوحة للتطور لتصل إلى حدود الاتفاق التام مع توسع مداها ومستوى العلاقات الثنائية بين واشنطن وأنقرة ولحين إقرار الحل النهائي للأزمة السورية ضمن توافقٍ دولي مرجعه الأساسي القرار الأممي 2254. وبالمحصلة فإن «الاتفاقية المبدئية» تخدم بالدرجة الأولى مصالح أمريكا (وحلفائها) الحيوية ومشاريعها الأمنية والاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، لذلك تحاول أمريكا وعبر المبادرة الفرنسية سابقاً والبريطانية لاحقاً للمصالحة وترتيب البيت الكوردي، كي توفر ورقة ضامنة ورابحة على أرض الواقع وتستخدمها في مفاوضاتها مع تركيا للضغط عليها وقطع ذرائعها وإضعاف موقفها، وبالتالي تسهيل مهامها (أمريكا) في تمرير مشاريعها الاستراتيجية… يأتي رفض النظام السوري (وإن كان إعلامياً) للتهديدات التركية من منطلق الواجب الوطني دفاعاً عن السيادة، باعتباره الحاكم لسوريا أولاً، وكرد فعل على تجاهله وعدم إشراكه في صياغة الاتفاقات المبرمة كطرفٍ معني ثانياً، وكذلك لتوجسه من إهمال دوره وغموض مصيره بعد تطبيق تلك الاتفاقيات، والتي تؤسس لواقعٍ جديد وخارطة جديدة، قد تكون مخالفة كلياً لأجنداته وتصوراته المستقبلية أخيراً.
إن مصير المنطقة بمجملها وخرائطها السياسية تقرره الدولة العالمية العميقة وتنفذه الدول العظمى، وما على الأطراف والأطر الكردية كافةً إلا بتوحيد صفوفها وخطابها ونشاطها وترتيب أمورها، لتصبح قوةً معتبرة مستقلة بذاتها تفرض حضورها على الساحة وتنفذ مهامها وتحقق أهدافها، لتكون مؤهلة وجديرة بتبني القضية الكردية (أرضاً وشعباً) وتمثيلها ضمن الظروف الموضوعية المتوافرة والحلول الممكنة في مرحلة الاستحقاقات القادمة، وعدم الانخراط في مشاريع الدول وتنفيذ أجنداتها وبخاصة تلك المقتسمة لكردستان وبالتحديد تركيا، التي تحارب وجود الكورد وتطلعاتهم القومية والوطنية بكل ما تملك من وسائل وطاقات وفي كل الأزمنة والأمكنة. ونكبة عفرين كتجربة أليمة ومريرة مازالت حيةً في الأذهان وماثلةً للعيان، وما زالت تنزف بحرقة وشدة من جميع أعضائها ومشاعرها وقواها… تحت وطأة الاحتلال التركي الغاشم ووحشية مرتزقته من العصابات الإرهابية التي تنشر القتل والدمار وتنفذ الإبادة والتطهير بحق الكورد وممتلكاتهم ومعالمهم… تحت إشرافه ورعايته، وعلى الكل الوطني والقومي والديموقراطي مراجعة سياساته وحساباته ورهاناته، وأخذ العبر والدروس منها، سواءً كانوا في السلطة أو المعارضة أو ما بينهما آنذاك.