لا جلداً لذات سكانها ولا تعصباً لعفرين التي تتميز عن غيرها بتحررها منذ عقود من نزعة التعصب الديني والطائفي ومن كل أشكال العلاقات العشائرية البالية، وبانفتاحها على الآخر المختلف؛ فقد انفردت عفرين في سوريا باستقرارٍ نسبي، ورغم الحصار الذي تعرضت له بين الحين والآخر قبل الاحتلال كانت تُعتبر من المناطق الآمنة طيلة سبع سنوات من بدء الأزمة السورية2011، وملاذاً لألوف العائلات العربية من كافة المناطق السورية.
ورغم صغر مساحتها الجغرافية وكثافتها السكانية العالية نسبياً فإنها تعرضت لغزو عسكري خارجي من لدن ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو ومعها عشرات الفصائل الجهادية المسلحة الموالية لها. كما تميزت عفرين أثناء العدوان عليها بصمود أهاليها رغم محاصرتها من كل الجهات، دون تأمين ممر إنساني للمدنيين العزل كما تنص عليها المواثيق والأعراف الدولية أثناء الحروب؛ إلى ذلك فإن ليلة الخامسة عشرة على السادسة عشرة من شهر آذار 2018 المثخن بالكوارث والمآسي، والذي يصادف ذكرى مجزرة حلبجة، لم يكن يوماً عادياً أبداً، ولم يأتي عبثاً البتة. فتحركت الآليات والناس بنظراتهم الحزينة وفي حالة القلق والإرباك البادية على وجوههم، والحيرة بين البقاء في عفرين أو الانتقال إلى القرى المحتلة أو النزوح إلى الخارج، وسط إصرار العفرينيين على التمسك بمناطقهم التاريخية وعدم النزوح منها، رغم هول الحرب وضراوتها. بالمحصلة فإن كل الوقائع والتحركات كانت تُنذر بقدوم خطرٍ داهم وقريب لا محالة.
هناك في أحد أحياء عفرين، وفي أحد شوارعها عشرات العوائل بين مفترشة للأرض ومفترشة على ظهر آلياتها المغطاة بحصيرةٍ أو غطاءٍ من النايلون، لتقي نفسها من حالات الطقس المتقلبة في آذار، وهنا في غرفة خلفية لشقة من غرفتين وصالون تضم أربعة عوائل بينهم رجلان في السبعين من عمرهما وعجوز ذات المائة عام، وطفلة بعمر عامين وأمها الحامل. هكذا كان حال بيوت عفرين طيلة الحرب، وفي ليلة النزوح بالذات.
في ذاك اليوم وما إن أَسدل الليل ستاره، حيث لا ماء ولا كهرباء، حتى بدأت الصواريخ والقذائف تنهال على المدينة من كل حدب وصوب كالمطر، وهدير الطائرات وقصفها المتواصل تهز المدينة حتى الصباح وتزرع الرعب في نفوس سكانها الآمنين دون شفقة ولا رحمة. ما الذي يحدث؟. حلم هذا أم واقع؟. أحقاً هذا ما كانت تقصده تركيا من تحرير عفرين؟ لا لا، تباً لهكذا تحرير، هذا احتلال! تركيا تريد تشريد الكُـرد وإيواء الجماعات التكفيرية في مناطقهم، وإحداث تغيير ديمغرافي فيها، بهدف طمس هويتهم القومية. حقاً كانت تلك الليلة طويلةً وثقيلةً على سكان عفرين، إلا أن الصباح مع رحلة النزوح الجماعي تحت القصف كان أشدّ وطيساً، أما السمفونية الارتجالية لأهالي عفرين المُهجرين قسراً في استراحة جبل الأحلام المطل على المدينة وسهولها وهم يصرخون عفرين… عفرين… ومن ثم يقبلون التراب ويبكون، فقد كان تأثيرها أشدُّ وقعاً على النفوس من الحرب نفسها، لا بد وأنها حفرت في ذاكرة الأجيال ولن يمحوها الدهر بسهولة.
كُـرد عفرين على قدر محبتهم لأراضيهم وتمسكهم بها شعبٌ تحمل تبعات حربٍ شرسة طيلة شهرين، وأبى الخروج من مناطقه إلا مكرهاً وفي اللحظات الأخيرة من دخول القوات المحتلة، واختارت الغالبية العظمى التموضع على بعد مئات الأمتار من هذه القوات، وبقي قسمٌ منهم في مساكنهم، واختار الكثيرون العودة بعد أيامٍ قلائل من النزوح، ومعظم النازحين كانوا يترقبون الفرصة المواتية للعودة، رغم معرفتهم التامة بجملة العراقيل والصعاب وحالة الفلتان الأمني التي تشهدها المنطقة وما يرافقها من بطشٍ ونهبٍ وسطوٍ وابتزاز.
أجل كانت مأساةً وتجربة مريرة، لكنها كانت تحمل في طياتها الكثير من الدروس والعبر، ودافعاً لترتيب أولوياتنا، وتجميع طاقاتنا وتوجيهها صوب طريق الخلاص من الظلم الذي لحق بنا؛ فتجربة كُـرد العراق ماثلة للعيان، رغم حالات النزوح الجماعية المتكررة والقصف الكيماوي وعمليات الأنفال السيئة الصيت والاضطهاد القومي التاريخي، فقد سقط صدام حسين ونظامه ورحل، بينما بقي الكُـرد صامدين وأصبحت هولير- كردستان العراق تُضاهي كبريات العواصم الإقليمية.
ما نريد قوله ورغم ما حصل فإن كل المعطيات الذاتية والداخلية والإقليمية وتشابكات الأزمة السورية ومساراتها المتقلبة التي لسنا بصددها الآن تجمع على أن كل ما يحدث في سوريا آني ومؤقت، فلا انتصار ثابت ولا نزوح دائم. إلا أن المؤكد أن لا مكان للجماعات المتطرفة والإرهابيين في مستقبل سوريا الذي لم يتحدد معالمه بعد.
ورغم المحن والصعوبات، يحاول أهالي عفرين في داخل المنطقة وخارجها معاودة العمل في مختلف المجالات وبما أمكن بثبات وعزيمة، ويواصلون نضالهم لأجل تحرير منطقتهم من براثن الاحتلال، في وقتٍ يدب فيه التململ واليأس في نفوس عناصر الميليشيات المسلحة ونفوس من تم توطينهم في المنطقة، ولا بد أن نرى قريباً إلى أي مستنقعٍ قد انزلق أولئك المتهورون.