قبل أكثر من ثمان سنوات كتبنا: «المعارضة السورية خيبتْ آمالَ شعبنا الكردي وأمل كافة القوى والشخصيات المعتدلة في الحراك الوطني، وأكدتْ للقاصي والداني بأنها لم تتحررْ بعد من ثقافة القمع، ثقافة التنكر والإنكار. أكدت المعارضة السورية التي التأمتْ في القاهرة يوم 03/07/2012 برعاية الجامعة العربية وحضور ممثلي بعض دول الجوار بأنها لا زالتْ تجهل أو تتجاهل حقيقة القضية الكردية في سوريا التي تتطلب حلولاً منصفة وعادلة في إطار وحدة البلاد مبنية على أسس الشراكة الوطنية وعلى نصوص المواثيق والعهود الدولية التي تتعلق بالشعوب. وإن عدم اعتراف هذه المعارضة بإدراج اسم الشعب الكردي كثاني مكوّن من النسيج الوطني السوري في وثيقة العهد وعدم قيامها بالتعهد لحل قضيته الوطنية والاعتذار الرسمي لشعبنا عما لحقَ به من ممارسات شوفينية فريدة من نوعها ولا يزال يعاني من آثارها الكارثية حتى اليوم، تُنبئ بهشاشةٍ في الثقافة الإنسانية المعاصرة ومستقبلٍ غامض للبلاد عكسَ ما تصبو إليها الثورة وما تطرح من قيم الحرية والعدالة والتعددية القومية والفكرية..، وتُشعِرُ الكردَ بإعادة إنتاج الظلم والغبن بحقهم واستمرار سياسة التمييز العنصري، وتُظهر بوضوح طغيانَ ثقافة الاستعلاء القومي لديها.
إن هذه السياسة لا تخدمُ سوريا الجديدة ومستقبلَ شعبها بشيء، وينبغي عليها إعادة النظر في حساباتها إنْ كانت هذه المواقف ناتجة عن بنات أفكارها، وألا تسمحَ لأحدٍ من التدخل في شؤونها وفرض آرائها عليها إن كانت مملاة عليها من الخارج، لأننا نحن السوريون محكومون بالعيش معاً، وليس معَ من يريدون تحقيق مصالحهم وحماية أمنهم القومي على حساب مصالح ودماء شعبنا السوري. أعتقد بأن القوى الكردية قد أحسنت التصرف عندما رفضت التوقيع على هذه الورقة، ولكن يقع عليها عبءٌ كبير وينتظرها عملٌ دؤوب، يتلخصُ بوحدة الموقف واستمرار الحوار مع هذه المعارضة وإقناعها بأن الكرد هم شعبٌ يعيش على أرضه منذ القدم، تعرّضت بلاده للتقسيم الاستعماري أكثر من مرة عبر التاريخ، ويزيد تعداده عن الأربعين مليوناً في منطقة الشرق الأوسط، يعيش على أرضه محروماً من حقوقه القومية المشروعة، يجب أن تدرك المعارضة هذه الحقيقة قبل أي شيء آخر، وأن الكرد ليسوا بعرضيين أو طارئين على هذه البلاد الناشئة. من جهة أخرى، عليها أن تلجأ إلى كل القوى الفاعلة من دول الجامعة والمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية للتدخل لحلّ هذه الإشكالية والضغط على القوى المتنفذة في قيادة المجلس الوطني على قبول الحقيقة كما هي. نحن الكرد لا نريد الاستئثار بحقوق أحد، لكننا في الوقت عينه لن نتخلى عن حقوقنا المشروعة المحقة التي ناضلنا لأجلها منذ أكثر من خمسين عاماً ولا نزال، لأن إرادة العيش المشترك في دولة ديمقراطية حديثة تفرض على الجميع اتباع سياسة شفافة مرنة توافقية بعيدة عن الإقصاء والتهميش.»
نعم…واليوم، وبعد سنواتٍ من حربٍ مدمرةٍ في سوريا وعلى شعبها، تزدادُ أهمية التعلم من التجارب الأليمة التي عاشها السوريون بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم الفكرية وميولهم السياسية، وأخذ العظة منها، ولعلّ في المقدمة منها أن نعلمَ جميعاً بأننا ندفعُ ضريبة حروب الآخرين على أرضنا والطامعين في ثروات بلادنا، والباحثين عن مصالحهم وتصفية حساباتهم مع منافسيهم ثانياً، وليست هناك قوة دولية ولا إقليمية واحدة فكرتْ أو تفكر لحظة واحدة بأوجاع السوريين الذي تشردوا في بقاع الأرض هرباً من الموت، فمنهم من أصبحَ طعاماً لأسماك البحار ولم يكتب له النجاح في الوصول إلى برّ الأمان، وآخرون باتوا يعيشون بعيداً عن كرامتهم في أوضاع مزرية تفضحُ- وبكل أسف- زيفَ ادعاء المجتمع الدولي بالدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب.
لقد أثبتتْ ما تسمى بالمعارضة السورية التي أيّدتْها في البداية غالبية بلدان العالم ثم تخلّتْ عنها لاحقاً لتناقض مصالح الدول الداعمة المتصارعة أولاً, ولأنها باتتْ ألعوبة وبيدقاً بيد دول الجوار مثل تركيا وقَطَر وغيرهما، يقودها الإخوان المسلمون وأخواتُها من التنظيمات الراديكالية المشبعة بالتطرف والكراهية ثانياً، لتمارس دورَها في تمزيق الوحدة الوطنية وتشتيت صف القوى الوطنية الديمقراطية التي تسعى لبناء دولة ديمقراطية تعددية لكل السوريين، ينعمون في ظلها بالحقوق المتساوية ويحكمها دستور معاصر ينبذ العنف والتطرف والتمييز، وذلك تنفيذاً لأجنداتٍ خارجية لا مصلحة لشعبنا السوري فيها من قريب أو بعيد.
لقد بانتْ حقيقة هذه (المعارضة) المتمثلة في الائتلاف المعارض الذي اتخذ من إسطنبول مركزاً له ومن دوائرها الأمنية مرجعية لاتخاذ قراراته السياسية، خاصة في فضيحة مشاركته لدولة مثل تركيا باحتلال أجزاءٍ من وطنه كـ(عفرين) بدعوى تحريرها من وحدات الحماية الكردية التي صنفتْها تركيا -ظلماً وعدواناً- بالإرهابية، بصرف النظر عن الأخطاء والتجاوزات التي تحدثُ هنا وهناك من قبل القيادة السياسية، ومارستْ فصائلُه المسلحة التي سمت نفسها بـ الجيش الحر بالتعاون مع جبهة النصرة وبقايا داعش المهزوم فظائعَ غيرَ مسبوقة بحق الشعب الكردي في عفرين وريفها بتوجيهاتٍ وخططٍ ممنهجة من جانب الحكومة التركية التي تنتهج مبدأ معاداة الكرد وتبتغي تغييرَ الخارطة الديموغرافية في المنطقة الكردية عبر تفريغها عنوة بقوة السلاح وممارسة الإرهاب المنظم بحق أهلها وإسكان العرب والتركمان مكانهم في إطار مشروع سياسي عنصري بغيض، يخدمُ الأطماع التركية في المنطقة. واتضحَ بصورة لا لِبْسَ فيها بأنَّ المشروعَ الذي يعملُ عليه الائتلاف السوري هو مشروعٌ مبرمجٌ لخدمة الآخرين، ويسعى في جوهره لإعادة الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا قروناً إلى الوراء، والغاية الأساسية للائتلاف هي تسلّم السلطة لنشر فكرها وترسيخ إيديولوجيتها القائمة على العنف والكراهية، والدوران في فلك الإسلام السياسي، وهذا لا يختلف كثيراً عن الأطماع الإيرانية في المنطقة بدءاً من العراق مروراً بسوريا فلبنان ووصولاً إلى اليمن والبحرين وتمرير مشروعها القائم على تزعم المنطقة، ناهيك عن كلِّ من روسيا وأمريكا، اللتان لم تلتقِ مصالحُهما حتى اليوم لحلّ هذه الأزمة التي تساهمان في إطالة أمدها، ولا يهمّ قيادتيهما كثيراً ما يلاقيه السوريون من موتٍ ودمارٍ وتشرّدِ!!.
أما في الوضع الكردي، وبكل أسف ومرارة، على الرغم من التهديدات الجدية التي نشهدها كلّ يوم، ونعيشُ أجواءَها، لا تستطيع حركتنا السياسية أن تعيد النظرَ في سياساتها ومواقفها وتموضعها، وكأنها تسير في اتجاهٍ كلّي الصحة ولا يمكنُ لها حتى التفكر في الواقع المأساوي الذي نعيشه والمخاطر والكوارث التي قد يترتب على مواقفها هذه. فالعداء والتراشق وبث سياسات التفرقة والأحقاد، وعدم قبول الجلوس على طاولة واحدة لمناقشة المستجدات الخطيرة التي تحيط بنا من كل الاتجاهات وهي على أشدّها، هو عنوان سياستها وكأن الأمرَ لا يعنيها بشيء، وكلُّ طرفٍ يتنصّل من المسؤولية ويكيل التهم للطرف الآخر ويتذرع بأعذارٍ لا يمكن القبول بها!! .. وإنْ دلَّ هذا على شيء، فإنما يدلّ على عدم الشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتقها وتفضيلها لمصالحها التحزبية على المصلحة العامة ومستقبل شعبنا.
يبقى أملنا معقوداً على الخيّرين من أبناء شعبنا مَنْ هم داخل التنظيمات ومَنْ هم خارجها من الوطنيين والمثقفين والكتّاب الذين يقع عليهم واجب رفع الصوت عالياً، والمطالبة بتجنب رفع الشعارات الطنانة الكبرى، والكفّ عن مخاطبة أمزجة وعواطف الناس، بل العمل على تحقيقَ خطوة صغيرة على الأرض، ومتابعتها بخطوات عملية صغيرة أخرى، تتراكم وترتدّ إيجابياً على مصالح الناس. إنّ القيام بخطوة عملية بهدوء وصمتٍ، خيرٌ من ألف خطبةٍ شعاراتية جوفاء تخاطبُ عواطفَ الناس وأمزجتَهم.