هكذا هو واقعنا المأساوي والعالم المتدافع نحو المجهول في أيامنا! فما العمل ؟ هل نغمض أعيننا، أم نجلس ونتفرج حتى «يأذن الله» بانقلاب الظروف خدمة لسواد عيون الشعب السوري؟ بل، وأي شعب سوري بعد العسكرة والتطييف والتشظي والاحتلالات والتبعيات المأجورة، ومع تعرض الملايين المغلوبة على أمرها في الداخل والخارج إلى الفناء جوعاً وعرياً وبرداً وحراً وعطشاً ومرضاً وتجهلاً وانطواءً؟ أم أنه على السوريين، أصحاب العقل والضمير، الوطنيين الإنسانيين الحضاريين، المتبقين بعد استهدافهم بأفظع وسائل الإفناء والابادة لجعلهم الأقلية المنقرضة، أن يتداعوا ويتلاقوا حتى يصبحوا الأكثرية العظمى الغالبة ، وعليهم ان يستنفروا عقولهم وضمائرهم ليسقطوا المعازل والموانع الفردية والجماعية التي أقيمت فيما بينهم ويشكلوا على أنقاضها الكتلة الوطنية الكبرى التي تستوعب، قولاً وعملاً، جميع ضحايا هذا الواقع الأليم، ويشبكوا أياديهم بعضهم مع البعض الآخر لبناء نظام حياة سورية إنسانية جديدة متقدمة يحتضن مصالح وطموحات السوريين إلى النهوض الاجتماعي والاقتصادي وإلى الارتقاء الإنساني؟
نعم، لقد برهن جميع المتدخلين في سورية، الإقليميين والخارجيين، بأفظع ما يكون التدخل همجية وامتهانا للسوريين، مواطنين ودولة، واستهتاراً بوعيهم وحقوقهم وكرامتهم ووطنيتهم الجامعة، بأنهم لا يمكن أن يسمحوا بتحقيق أي تغيير وطني ديمقراطي في سورية! هذا ولسنا غافلين، كسوريين، بأن قدراتنا أضعف بكثير من أن تحدث التغيير المواتي في مواقف تحالف «الاخوة الأعداء» الأسود اتجاهنا. ولكن، بالمقابل، ألم يكشف الشعب السوري، بالخسائر والتضحيات غير المسبوقة التي تحملها، عن إصراره على إفشال خطة إخراج سورية من التاريخ والجغرافيا، والانطلاق في مسيرة التقدم إلى الأمام والارتقاء إلى الأعلى، وعن إيمانه باستحالة تقبله تكلس وتأبيد الواقع المناقض لقوانين الطبيعة والتاريخ ، سواءً واقع ما قبل 2011 ، أو الواقع الذي انتجته السنوات الثمان الكارثية التالية، وأنه لا بديل عن تحقيق التغيير الوطني الديمقراطي؟
إلا أنه لابد من القول اليوم، أن التكاليف الهائلة للانتقال إلى هذا التغيير قد تجاوزت أسوأ التوقعات بكثير! وأهم وأخطر هذه التكاليف هي خسائر الشعب السوري الإنسانية، من آلام لا تقدر، ومن ملايين القتلى والمعاقين والمغيبين والمخطوفين والمعتقلين والنازحين والمشردين والأرامل والأيتام والنساء والشباب والأطفال، ومن قيم ومؤسسات وموروثات وكنوز حضارية، وخسائره المادية الهائلة على المستويات الخاص والمجتمعي والدولتي، من ملايين المساكن التي وضع السوريون فيها جني عمرهم وفنهم والكثير من عقلهم ومن روحهم، إلى البنى التحتية والتعليمية والصحية والانتاجية، وإلى القوة العسكرية التي كان يراكمها من أجل تحرير الأرض بثمن حرمانه وحرمان اقتصاده من أهم ضروراته على مدى ثلاثة أرباع القرن منذ الاستقلال وحتى اليوم . وبالتأكيد، فإن هذه الخسائر كلها يستحيل حصرها بأرقام أو كميات، وإنما يجب النظر إليها باعتبارها «ثقباً سورياً أسوداً» هائلاً، والأكثر إيلاماً في كل ذلك، أنه كان متاحاً، وبكل بساطة، بالعقل الوطني والضمير الإنساني، إبعاد سورية عن السقوط في هاويته، لولا فائض الرعونة، عند أعلى سطوتها وذروة غطرستها، الذي يختزنه الفساد والاستبداد المزمنين المدججين بالسلاح المتدفق من الدول والشركات الأجنبية المتنافسة على إرواء نزعاتها العدوانية وإشباع جشع الطامعين المرضى النفسيين لديها. وأكبر وأخطر الخسائر تتمثل بالاحتلالات الأجنبية التي تتجذر وتحفر لأسوارها أساسات عميقة، قاطعة الوشائج بين أبناء الشعب السوري، والتكامل الطبيعي بين مختلف البقاع السورية، مغتنمة الفرصة الذهبية التي وفرها لها تزايد وتنمر قوى الأمر الواقع الهمجية المهيمنة وتشرذم السوريين واستقالتهم، تحت ضغط مختلف أشكال الترهيب والترغيب، من مسؤولياتهم الوطنية، وتنكبهم عن المصالح المشتركة، واستسلام مغسولي العقول المدججين من بينهم لإغراءات التسلط والسطو على المسالمين المستضعفين، متبرعين بأنفسهم ان يعملوا عند أعداء وطنهم الخارجيين حراسا مأجورين لاحتلالاتهم ، وقد تعروا حتى من اوراق التوت ، وانكشفت عورات ضمائرهم الخاوية من الوطنية والانسانية والشهامة، ووجوههم الممتقعة من الابتذال والنذالة، وهم يجرون عربات المتدخلين المحتلين إلى حيث يريدون، وهؤلاء كان يجب التحسب لظهورهم ولأدوارهم التقسيمية اذا ما تعسكر وتطيف واستطال الصراع حتى تتعمق الشروخ وتنتفخ القروح متغذية بالتغطية والدعم غير المحدود من قبل الخارج لقوى الأمر الواقع المحلية الهمجية، المستوطنة والطارئة، المستبدة الفاسدة، المتطوعة لمحق مقدرات الدولة والشعب، قطعاً للطريق أمام أي تغيير وطني ديمقراطي مستحق !
* عن صفحة الفيسبوك.