لقد أكد مؤسس علم التاريخ الكردي شرفخان البدليسي بأن أول فوائد التاريخ “هي كونها معرفة للناس”…لكن هذه المعرفة تحولت مع مرور الزمن إلى أداة لحجب الحقائق، فسلاح ليحارب به طرف طرف آخر… فمن بين أبرز مساوئ النظام المعرفي والثقافة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط هو توظيف المعلومات والمعطيات التاريخية لتخدم أجندات سياسية وفكرية محددة، وقد بالغ عدد من علماء الآثار والمؤرخين في اجتهاداتهم التاريخية تماشيا مع نهج بعض المدارس الاستشراقية في تطويع التاريخ وتحويره لصالح مشاريع ومفاهيم سياسية وفكرية خطط لها مسبقا.
فعلى سبيل المثال بالغت المدرسة التوراتية في التركيز على الماضي التاريخي لليهود في فلسطين، وضخمت من أهمية الممالك العبرانية التي ظهرت فيها، وكذلك ربطت بشكل ميكانيكي بين حق إنشاء وطن لليهود في المنطقة وتلك الممالك اليهودية أو العبرانية البائدة. وكان من أولى نتائج هذا التوجه الخراب الذي حل بالواقع السياسي في المنطقة وراح ضحيته حقوق شعب بكامله، وعدم استقرار سياسي مستمر منذ حوالي قرن من الزمان من جهة. ومن جهة أخرى تراجعت دقة ومستوى المعلومات والحقائق التاريخية على الصعيد النظري الصرف. وكاتجاه موازي للدراسات التوراتية ظهرت مدارس تاريخية وأثرية أخرى في المنطقة، منها مدرسة الدراسات الرافدية والآشورية على نطاق أضيق، التي بالغت أيضا في أهمية التراث الآشوري وضخمته ليطغى على تراث وتاريخ كل بلاد الرافدين بل مناطق الجوار أيضا.
وأغلب هذه المدارس تعود بجذورها إلى مطلع القرن التاسع عشر حيث لم تكن المعارف التاريخية قد اتسعت وتجاوزت إلى أبعد من زمن الإغريق، لذلك كانت كافة الأساطير والمعارف التاريخية القديمة تنسب إلى الروايات الدينية وسرديات الكتب المقدسة وتنهل من مصادرها، وتدور في فلك أيديولوجيتها وتصوراتها لبداية الخلق وتعاقب الأمم ودرجة أهميتها.
تبعت هذه المناهج البحثية الاستشراقية ذات الجذور الدينية والأسطورية دراسات تاريخية ذات منحى قومي (عربي، تركي، فارسي،كردي، أرمني…) حاولت أخذ نسغ مشروعها القومي السياسي من مشروعية تاريخية تحاكي بصيغة أو بأخرى المشروع التوارتي أو تعاكسه، أي استعارات منهج الأحقية والأسبقية التاريخية من المدرسة التوراتية، دون أن تدري، مما أفضى إلى تعقيدات وتشابكات علمية وسياسية جديدة. ملخصها أن كل شعب من شعوب المنطقة يجاهد لتأكيد قدمه وأحقيته التاريخية في السيادة على الأرض المتوارثة من شعوب قديمة يفترض أنها الجد والوارث الشرعي لها، سواء كانت هذه المجموعة البشرية مهاجرة أو مستقدمة إلى المنطقة. هذه المنطقة التي تتصف بالتنوع والحيوية في احتكاك الثقافات وتبدل الهويات وتفاعلها منذ العصور الحجرية.
ما نود قوله باختصار في هذا السياق أن هذا المنهج العلمي المعرفي في قراءة التاريخ وتوظيفه سياسياً قد ولدت عدة معضلات رئيسية، أولها سيادة العقلية الأبوية التي تؤمن بالنسب الافتراضي، أي بانتماء بعض الشعوب الحالية لشعوب ومجموعات أثنية بائدة، وحقها في توريث أرضها المفترضة، وبالتالي حدثت مفاضلة بين أبناء شعوب المنطقة بدعوى الأحقية والمشروعية التاريخية في السيادة السياسية على جغرافية راهنة، واستبعاد حقوق الإنسان الأساسية والمشخصة.
وثانيها تنامي ثقافة الإقصاء المخدوعة بأوهام الأساطير التاريخية، حيث يفترض كل طرف أنه الوريث الشرعي والوحيد لشعب ما كان يحكم هذه الأرض لفترة ما وعلى الآخرين أن يكونوا مجرد أتباع أو ضيوف وكحد أقصى مجرد أبناء لجاليات مهاجرة يتم استضافتهم على الأرض عند الضرورة! وخاصة فرضية القوميين العرب الهزيلة.
وثالثها تراجع مفهوم المواطنة المعاصرة للبشر الذين ينتمون لجغرافية ووطن قائم، لصالح الانتماء لسلالات ومجموعات عرقية حاكمة أو مهيمنة سياسيا و أيديولوجيا.
ما نود التأكيد عليه أن هذه الاتجاهات البحثية وما اشتق منها من أفكار وآراء ومواقف سياسية قد أضرت بالمعرفة التاريخية أولاً وبالتفاهم السياسي والتعايش الاجتماعي على الصعيد العملي تالياً.
لذلك لابد أن نسعى جميعاً لتناول التاريخ بصفته حقلاً معرفياً قائماً بذاته، يمتلك مناهج بحث صارمة تستند على الوثائق المدونة وتعتمد المخلفات الأثرية من أبنية، نصوص ولقى وأشكال فنية ورموز. فعلم التاريخ يتطور ويتسع ويعيد تصحيح معارفه ومخرجاته وصياغاته الأخيرة، وهو مفتوح على كل الافتراضات والاحتمالات، وفي المقدمة منها أنها مساحة حقيقية مشتركة لكل شعوب المنطقة، ونبع ثقافي لكل أبنائها، وليس فقط لأحفاد مفترضين. فالتاريخ الحقيقي المشترك يؤسس للتقارب والتفاهم وملامسة الجذور الحضارية الواحدة لكل سكان المنطقة.
لابد إذاً من السعي للتأسيس لمعرفة تاريخية موضوعية، والاشتغال في دراسات وأبحاث خارج الإسقاطات السياسية وتأثيراتها الفكرية والأيديولوجية، وذلك لتحويل الحقل التاريخي بكل ما فيه من آثار وتراث وثقافة وفن ومرويات إلى حقل معرفي ومساحة مشتركة، ونقطة للتلاقي ووسيلة للتخلص من الإقصاء والاستعلاء والتعصب القومي والديني.
وينبغي لتوفير هذا المناخ التمهيد العلمي الموضوعي لظهور حقائق جديدة موثقة، حقائق ومعارف تبين بأن تاريخ منطقتنا من الغنى والتنوع بحيث تشجع على الاعتقاد بأنها تاريخ لكل بني البشر، وهي تكشف عاماً بعد آخر أن بدايات تكون المجتمع الإنساني المنظم بأفضل صيغه وإشراقاته كان في منطقتنا. ويعقد الآمال على أن تتنامى الاتجاهات البحثية التي تجعل من المعرفة التاريخية طريقاً لتلاقي البشر عند منابع الحضارة الأولى، ووسيلة للخلاص من التعصب والإقصاء والعيش في ظل الأوهام والأساطير الكبرى. والسبيل المختصر إلى ذلك يعتمد على درجة عمل واجتهاد كل المشتغلين في الحقل التاريخي والفكري، القادرين من جعل المعرفة التاريخية مدخلاً لتأمين حياة أكثر تفاهماً وتنويراً وإشراقاً لكل أبناء المنطقة، الحاضرين اليوم والآتين مستقبلاً. وأخيراً لابد من تخليص السياسة من سطوة التاريخ ومتاهاته، ولابد من عدم الربط بين الحقوق السياسية المعاصرة ومشروعية الجذر التاريخي لأي شريحة اجتماعية وبصرف النظر عن عمق أو طول هذا الجذر، فآخر ما يمكن قياس الحقوق السياسية وحقوق المواطنة عليه هو التاريخ السياسي نفسه في منطقة تمتلك خاصية الاضطراب والتفاعل منذ عشرة آلاف سنة على أقل تقدير. فالاستخدام المفرط للتاريخ في قضايانا السياسية لم تساهم بعد في إيجاد الحلول الموضوعية لها.
وهذا ما حاولناه ومستمرون عليه في مجلة الحوار. وفي هذا العدد ملف عن جوانب من تاريخ الجزيرة السورية نأمل أن يندرج ضمن هذا النهج المعرفي.
* الافتتاحية- مجلة الحوار- العدد /73/- السنة /26/- 2019م.