القسم العاممختارات

أليس هذا عقاب جماعي لشعب أعزل بأكمله؟

د. رضوان باديني*

 

أيها الأصدقاء

بادئ ذي بدء، أود أن أعرب عن شكري وامتناني لوكالة (ريا نوفوستي) لإتاحة الفرصة لي لمخاطبتكم…

الحقيقة أنني في هذه المرة سأتكلم ليس فقط كخبير علمي، أو كصحفي ومحلل سياسي… بل ككردي، كردي ينتمي إلى هذه الأرض وهذا الشعب. فليس خافياً على أحد أن الكُـرد منذ أكثر من مائة عام (أي منذ ترسيم الحدود السياسية للشرق الأوسط)، يقاتلون من أجل حريتهم وحقوقهم. لكن للأسف إلى الآن ليس من نتيجة مهمة. الكُـرد لم يكسبوا شيئًا إلى الآن سوى المآسي والويلات الكبيرة. أقول ذلك، ليس لأنني كردي، فبصراحة لا أعرف في التاريخ الحديث شعباً آخر تحمل مثلما تحمل الكُـرد من المصائب، من الإذلال والاضطهاد. هذا الوضع ما زال سائداً والكُـرد ما زالوا محرومون من أبسط حقوقهم القومية. وبذلك يصبح واضحاً لماذا بعض الباحثين يسمونهم بـ «أيتام المسلمين».

لقد قرأت الكثير عن ظاهرة الاضطهاد القومي، ودرست تاريخ ومصير العديد من الأمم الأخرى، التي حاربت من أجل حقوقها. سمعت الكثير عن الظلم والفصل العنصري، عن سياسة التمييز العنصري في بلدان معينة. لكن صدقوني، أن ما عانينا منه نحن الأكراد في سوريا يتجاوز كل ما سمعته وعرفته من الأمثلة. لقد زرت بنفسي جنوب أفريقيا حيث كان يسود لردحٍ من الزمن نظام الآبارتائيد، وشاهدت بأم أعيني معسكرات ما كانت تسمى بـ «الغيتو» التي كانت تضم تجمعات للسكان الأصليين من السود. هؤلاء كان لديهم مكان يعيشون فيه بعد نفيهم من أراضي أجدادهم!. الآن تخيلوا معي أنه على شريط الحدود السورية مع تركيا بمسافة 350 كم. وعرض 15-20 كم سلبت الحكومة السورية الأرض من الفلاحين الأكراد ومنحتها للعرب الذين جلبتهم من أجزاء أخرى من سوريا، وبالتحديد من الرقة. الخلاصة: إذا كان تحت نظام الفصل العنصري (الآبارتائيد)، السكان الأصليين قد طردوا من أراضيهم الأصلية، لكنهم وضعوا في أماكن مخصصة بشكل يمكنهم الاستمرار في العيش، لكن تحت نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، أخذت الحكومة الأرض وتركت أصحابها تحت رحمة القدر.

بحسب الإحصاء السكاني الإستثنائي الذي أجري بشكل حصري للأكراد في عام 1962، تم حرمان أكثر من 150 ألف شخص من الجنسية السورية. الآن عددهم أكثر من نصف مليون. لقد ذكرت الباحثة الأمريكية مورين لانش، التي أجرت دراسة خاصة عن هذه المشكلة، ذكرت بأن «الأكراد المحرومون من الجنسية السورية لا يمكن لهم أن يمتلكوا (الأرض ولا العقارات، ولا أي شيء…) بل لم يكن بمقدرتهم تسجيل أطفالهم على أسمائهم، بل حتى البقاء ليلة واحدة في فندق في البلاد. وقد نشرت بحثها تحت عنوان: «الذين يدفنون أحياءً»!

والكاتب المصري الشهير يوسف زيدان، في إحدى ندواته قارن بين وضع الأكراد والفلسطينيين، حيث قال بكثير من القناعة والإصرار بأن الفلسطينيين يعيشون في «النعيم» بينما الأكراد وضعهم على الأغلب هو «الجحيم»، هذا هو الفرق بينهما. اعتماداً على ما تقدم يمكن القول بشكل لا لبس فيه، أن وضع التمييز العنصري الذي يعيشه الأكراد أصبح يضرب به المثل في العالم أجمع، ويستخدم للإشارة إلى الأوضاع الكارثية وبالغة السوء. لذلك، ليس من قبيل الصدفة أن امرأة مسنة في تسعينيات من القرن الماضي في تقرير تلفزيوني من البوسنة، كانت تشكو حظها وقدرها وتعدد مصائبها، كانت تصرخ وتقول مندهشة «لقد أصبحنا كالأكراد»؛ «أننا أصبحنا أكراد حقيقيون في هذه الدنيا… أننا أكراد أوروبا»!!؟

أيها الأصدقاء

إننا نناقش اليوم مسألة انسحاب القوات الأمريكية من شرقي الفرات. مرةً أخرى ، يطرح السؤال حول مصير الأكراد الذين حاربوا في الخطوط الأمامية للنضال ضد «داعش». ومن الواضح أن السيناريو المتوقع لمصيرهم هو نفسه الذي جرى لإخوتهم في عفرين، حيث دمرت تركيا بالكامل في غضون /58/ يوماً الحياة في المنطقة. وفقا لتقديرات الجيش التركي، شاركت أحياناً 72 طائرة عسكرية في قصف واحد!. إزاء ذلك، تخيلوا ماذا جرى للبقعة الصغيرة من الأرض أقل من 2000 كم2؟؟!! تركيا تدعي بأنها قتلت أكثر من /4/ آلاف شخص. ومن هنا سؤال منطقي: هل كل ما قتلتهم تركيا كانو مقاتلين ويحملون السلاح؟ كم من المباني السكنية والمدارس والمستشفيات دمرت؟ وفي النهاية من هو المسؤول عن كل هذا اللغط؟ تركيا تقول أنها تحارب حزب سياسي كردي واحد؟ ولكن، أسألكم، أليس هذا عقاب جماعي لشعب أعزل بأكمله؟

من هنا يمكننا تخيل مصائب وحجم العملية المحتملة شرقي الفرات. هناك مخاوف جدية من أن الأتراك، كما في عفرين، سيسكنون التركمان والعرب ويوغور تركستان (الصينية) في المنازل الكردية لتغيير التركيبة السكانية للمنطقة بأكملها.

برأيي، أن ما حدث لعفرين قد يبدو وكأنه قطرة من المحيط مقارنةً بما قد يحدث في شرق الفرات. ولذلك نتساءل ما هي مسؤولية روسيا في عفرين؟ وماذا ستكون مسؤولية الولايات المتحدة في شرقي الفرات ؟

أيها الاصدقاء

منذ أكثر من /100/ عام لم تتوقف تهديدات الإبادة الجماعية بحق الشعب الكردي. وفقا لاتفاقية سايكس-بيكو، تم تقسيم الأراضي الكردية بين /4/ دول، ثم اليوم بعد /100/عام، في جزء واحدٍ من هذه الأجزاء الأربعة، تُحاول كل من روسيا والولايات المتحدة تقسيم مناطق النفوذ. ومن المفارقات المذهلة أن هاتين القوتين العظيمتين تسعيان إلى حل الأزمة السورية، كل بطريقتها الخاصة، لكنهما للأسف لا تجدان لغة مشتركة حول الأكراد.

وعلى الرغم من أن كلاهما كيانات فدرالية (روسيا وأمريكا)، إلا انهما تبتعدان عن فكرة تطبيق هذا النظام في سوريا، لا بل لا تحبذان ذكر هذا المفهوم (كلمة الفدرالية) أمام مسؤولي سوريا وتركيا! الدولتان لا تبحثان بجد عن طرق منح الأكراد الحقوق الأولية، بل يتغاضون عن انتهاكات القوانين الدولية لحقوق الإنسان في هذه البلدان؟!

فلنتساءل: هل هذه هي «المكافئة» الأمريكية والروسية للأكراد كونهم ساروا على رأس الحملة العالمية ضد الإرهاب؟ أم هذا هو امتنان روسيا والولايات المتحدة للآلاف من الأرواح الشابة الكردية في القتال ضد داعش؟

وهنا أني أجد نفسي ملزماً الاسترسال على كلمات محرر الأسبوعية الفرنسية (شارب) شارلي هبدو، الذي أصبح بنفسه ضحية إرهابي داعش، حيث نشر مقالاً بعنوان «أنا كردي». حيث كتب:

«أنا لست كردياً ، لا أعرف كلمة واحدة باللغة الكردية ، ليس بوسعي ذكر أسم مؤلف كردي واحد. أنا لست على دراية بالثقافة الكردية… أوه نعم ! لقد صادف أنني أصبحت ذات يوم كردياً…!! آسف نسيت، أنني الآن كردي!!! نعم أنني كردي. اليوم أنا كردي، أفكر بالكردية، أتحدث بالكردية، وأغني بالكردية، وأبكي بالكردية… إن الأكراد المحاصرون في كوباني، ليسوا أكراداً…ّ بل أنهم يمثلون كل البشرية التي تقف بالمرصاد ضد الظلاميين. إنهم يحموننا جميعاً من العصابات الإجرامية الهمجية، من إرهابيي الدولة الإسلامية (داعش).

الشعب الكردي هنا اليوم ليقضي على اليأس والتشاؤم عندنا ويثبت خطانا على درب مناهضة القهر!

* مداخلة أُلقيت بالروسية في «مائدة مستديرة» أقامتها وكالة أنباء «ريا نوفوستي» ، بتاريخ 24/12/2018 في موسكو، وبمشاركة:

– د. رضوان باديني رئيس معهد الإعلام والدراسات السياسية (أربيل).

– إقبال درة، أستاذ مساعد في العلوم السياسية وأستاذ مشارك في الدراسات الإقليمية في جامعة موسكو الحكومية للغات (موريس توريز).

– كونستانتين تروتسيف، كبير الباحثين في معهد الاستشراق للأكاديمية العلمية الروسية.

– أندريه جوبريغين، كبير أساتذة معهد الاستشراق للأكاديمية العلمية الروسية.

———————

* جريدة الوحـدة – عدد خاص (عام من العدوان التركي على عفرين)- العدد 304 – كانون الثاني 2019 – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى