القسم العاممختارات

العبودية المعاصرة في أسوأ أشكالها سولومون نورثوب: اثنا عشر عاماً من العبودية 1841-1853م …

شكري دهدو*


لعل القارئ لرواية “اثنا عشر عاماً من العبودية” يشعر وكأنه يُشاهد الوقائع من خلف الستار، يعيش أحداثاً تقع أمام عينيه، لما لها من لغة سردية بسيطة، بروح وأحاسيس صادقة، تنبع من عمق معاناة، دون مبالغة أو تقليل، في قصةٍ واقعيةٍ حقيقيةٍ، فيها المؤلف بذاته بطل الرواية. نتاج أدبي عالمي، ذاع صيته منذ أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
سولومون نورثوب، مواطن أمريكي حرّ من العرق الأسود، مواليد بلدة مينيرفا بولاية نيويورك – تموز 1808م، كان يعمل في الزراعة والنجارة، وكموسيقار –عازف كمان، ممتن من حياته ويعيش مع زوجته وابنتيه في نيويورك التي كانت تحظر العبودية في ذلك الوقت. عرض عليه رجلان العمل كموسيقي وبأجر عال في مدينة واشنطن، لكنهما غدرا به وخدراه وباعاه لتاجر عبيد، فكانت العملية بمثابة اختطاف في أواخر آذار عام 1841م، ليغدو الرجل عبداً باسم “بلات” أطلقاه عليه.
تم بيعه، من تاجر إلى آخر، مع عبيد آخرين، وتم نقلهم من الشمال إلى الجنوب، ليجد نفسه مجرداً من هويته وشخصيته واسمه، عدا اللباس الذي على جسمه، ومملوكاً لأسياد في لويزيانا من الولايات الأمريكية الجنوبية التي كانت تجيز وتشرعن الرق.
أمضى سولومون /12/ عاماً من زهوة عمره في العبودية، تعرض خلالها لشتى أنواع التعذيب والاهانة ومرةً لمحاولة شنق من سيده، إضافةً إلى الأعمال اليومية الشاقة التي كان ينجزها، في ظروفٍ معيشية قاسية، وبأدنى مستويات المأوى والمأكل والمشرب.
حاول أكثر من مرة إخبار أسرته ومعارفه الذين انقطع التواصل معهم منذ اختطافه، لكن دون جدوى، إلى أن تعرف على رجلٍ أبيض يعمل نجاراً، كان يساعده بأمر من سيده، والذي أرسل باسمه مكتوباً إلى ذويه، يُخبرهم عن مكانه، ويطلب منهم المساعدة؛ فوكلوا محامياً صديقاً له، والذي ذهب إلى محكمة منطقة تواجد سلومون، مصطحباً معه وثائق تُثبت أنه مواطن حرّ، وأعتق العبد “بلات” من الرق بقرار من المحكمة، ليعود إلى أسرته وحريته في شهر كانون الثاني عام 1853م. بعد أشهر قليلة كتب سيرته الذاتية بمساعدة ديفيد ويلسون على شكل رواية، حيث حررها ويلسون باللغة الإنكليزية في نفس العام، وترجمها إلى العربية مروة هاشم، وتم نشرها عام 2015 من قبل هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة.
لم يتحدث سولومون عن مأساته فقط، بل ذكر معاناة كل العبيد؛ كيف يعملون في حقول القطن وفي معامل قصب السكر بشقاء، تحت برد الشتاء القاسي وحرّ الصيف الشديد… ويُصور لنا حال أمٍ بائسة ومشتتة، يتم فصل طفليها من حضنها، وبيع الثلاثة لتجار بشر كل على حدة، حيث قيل لها: “قريباً سوف تنسين أطفالك”؛ وكذلك يروي قصة فتاة سوداء، نشطة وفي زهرة عمرها، وكيف كان يستغلها سيدها جنسياً، وهي تتعرض مراراً للضرب والتعذيب، فتتمنى الموت لنفسها كل يوم.
علّموا العبيد مسلمات البقاء على قيد الحياة لدى السادة، “إن أردت البقاء على قيد الحياة، افعل وتكلم بأقل ما تستطيع”، و”لا تخبر أحداً أنك تستطيع أن تقرأ وتكتب، وإلا تكون زنجيّاً في عداد الأموات”، فالسادة الطغاة كانوا يخافون من الكلمة والمعرفة، يهابون الرأي وحرية التعبير.
من خلال روايته يعطي سولومون للمرء درساً في قوة الروح الإنسانية والإصرار الدائم على الأمل والمثابرة؛ تقول المترجمة هاشم: “إذ تتجسد عبقريته في التأكيد على مبدأ أن الانسان يولد حراً، وأن الحياة لا معنى لها حين ينقطع رجاء المرء في الوصول إلى الحرية”.
ومن جهةٍ أخرى يُبين لنا سولومون وحشية الإنسان تجاه الإنسان، ويُذكر أن العصا والسياط هي لغة الحوار والتواصل مع العبيد.
لم يتوانى سولومون عن ذكر محاسن ولطف بعض أسياده، إذ يقول: “لست أرى أن خطأ القسوة يقع على عاتق مالك العبيد، بقدر أن الخطأ يكمن في النظام الذي يعيشون في إطاره… هناك من السادة لا تعوزهم الإنسانية بقدر أن هناك من تنقصهم بالقطع… إن المؤسسة التي تتسامح مع تلك الأخطاء واللاإنسانية التي شهدتها هي مؤسسة قاسية، وظالمة، وهمجية…. تسعة وتسعين في المئة من العبيد أذكياء بما يكفي لفهم حقيقة وضعهم، وكيف أنهم يهفون إلى الحرية بقدر ما يفعلون؛ فتأثير هذا النظام الجائر يعزز بالضرورة الروح الظالمة غير القادرة على الإحساس حتى في أعماق هؤلاء الذين يتسمون-بين أقرانهم – بالإنسانية والكرم”.
لقد رافق الرق الحضارة البشرية قبل ظهور الأديان التي لم تُحرّمه أو تُلغيه، كأسوأ ظاهرة اجتماعية تاريخية من استغلال إنسان للإنسان؛ بل دعت إلى تنظيمه والإحسان إلى الأرقاء؛ فالمؤسسة المسيحية شرقاً وغرباً لم تمنع الرق، بل دعت العبيد إلى الإخلاص لأسيادهم؛ وهناك مجموعة من الآيات والأحاديث النبوية الإسلامية التي شرحت ونظمت ووضعت قواعد شرعية للتعامل مع الرقيق والجواري والتي أصبحت مع الوقت جزءاً من التراث الديني، لا تجوز مخالفته حسب رأي الفقهاء؛ فأثناء الغزوات والحروب التي تمددت شرقاً وغرباً، تضاعفت أعداد العبيد من البيض ما يُضاهي أعداد السود، وقتذاك.
نظراً لتطور وانتشار العلم والمعرفة، وتقدم البشرية عموماً في جميع المجالات، بدأت التشريعات والقوانين الوضعية تُلغي الرق وتحدُّ من ظاهرة العبودية، فكانت الدانمارك أول دولة أوروبية فعلت ذلك أواخر القرن الثامن عشر، وتبعتها بريطانيا وغيرها، وكذلك أمريكا بعد انتصار الشمال على الجنوب في حرب أهلية دامية بين أعوام (1961-1965)، التي اندلعت إثر إعلان الرئيس ابراهام لينكولن لإلغاء نظام الرق في أمريكا أثناء حملته الانتخابية عام 1960م. وأصدرت عصبة الأمم الاتفاقية الخاصة بالرق التي تم توقيعها في جنيف يوم 25 أيلول/سبتمبر 1926، والتي قررت منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بشتى أشكالها؛ إلى أن سن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان-10 كانون الأول 1948، في مادته الأولى: “يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قــد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.” وفي مادته الرابعة: “لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويحظر الرق والاتجار بالرقــيق بجميع صورهما”. وصدرت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع الإتجار بالأشخاص واستغلال الغير في البغاء، في 2 كانون الأول 1949م، اليوم الذي يُحتفى به سنوياً تحت مسمى “اليوم الدولي لإلغاء الرق”.
رغم هذا وذاك، ورغم انتهاء الرق بشكل كبير إلا أن العبودية لم تنتهِ بعد، فلا تزال أشكالها المعاصرة منتشرة بكثرة، السبي وبيع الأطفال، الزواج القسري، الاتجار بالبشر، السخرة، العمل القسري وعمل الأطفال، العمل لساعات طويلة بظروف صعبة وبأجور زهيدة، استغلال الأطفال والشباب وذوي الحاجة وإرغامهم على حمل السلاح في حالات الحروب.
فكانت حركة الشبيبة الصومالية، وحركة بوكو حرام في نيجيريا، وتنظيم داعش في سوريا والعراق، قد مارست العبودية ولاتزال بأسوأ أشكالها، حيث أن داعش فتح أسواق النخاسة في الرقة والموصل، وأسرت آلاف الايزديات سبايا واستولت على المئات من أطفالهن، ولا يزال مصير آلافٍ منهم مجهولاً.
حسب “مؤشر العبودية الشامل” لمنظمة Walk Free العالمية-عام 2016، نحو /46/ مليون شخص في العالم يخضعون لنوع من أنواع العبودية في عصرنا هذا، أبرزها العمالة القسرية وتهريب البشر والدعارة القسرية وتجنيد الأطفال واستغلالهم. عربياً، احتل السودان المرتبة الأولى من حيث النسبة المئوية، تبعه العراق ثم اليمن، وفي سورية بلغ عدد الضحايا /257,300/ شخصاً، حيث نسبتهم من عدد السكان: 1.130 وهي تساوي النسبة في الصومال، في وقتٍ يصعب فيه الحصول على احصائيات دقيقة.
بالعودة إلى رواية “اثنا عشر عاماً من العبودية-12 Years a Slave “، فقد أُنتج منها فيلماً درامياً تاريخياً بتاريخ 18 تشرين الأول 2013، كعمل بريطاني-أمريكي مشترك، ونال شهرةً واهتماماً عالمياً، وحصل على جوائز عديدة.
إذا كانت القوانين الوضعية لمعظم الدول والشرعة العالمية لحقوق الانسان واتفاقات دولية خاصة تحظر الرق والعبودية بكل أشكالها، إلا أن عقليات التخلف والتطرف، الغطرسة والطغيان، الجشع وجمع المال، لا ترى فظاظةً في استعباد الإنسان والتعدي على الطبيعة واستغلال ما هب ودب.
* جريدة الوحـدة – العدد 303 – كانون الأول 2018 – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى