القسم العاممختارات

ما وراء سياسة النهب والغنائم في عفرين ….

بدرخان علي*

حين اجتاحت الجماعات المسلحة السورية المتمردة، المرافقة لجيش الاحتلال التركي، مركز مدينة عفرين، في 18من شهر آذار 2018، ظهرَ للمتابعين أجمع ذلك النهب الواسع النطاق، حيث الآلاف من مقاتلي تلك الجماعات المؤتمرة من أنقرة يقومون بسرقة كل ما يقع تحت أيديهم من المحال والأسواق والمنازل، ولا يكتفون بسرقة ما خفّ وغلا ثمنه فقط، بل طلبوا المساعدة والمشاركة من مدنيين في المناطق المجاورة لعفرين، الواقعة تحت سيطرتها، إذ كانت ممتلكات العفرينيين، ومازالت، مشاعاً مفتوحاً. وقد أظهرت الصور الشهيرة المنقولة من قبل وكالة الأنباء الفرنسية مشاهد واضحة للنهب المفتوح والشامل. قال المصور التركي الذي نقل تلك الصور، في تصريح للـ CNNمستغرباً، إن هؤلاء المقاتلين كانوا مشغولين بالسرقة والنهب أكثر من الاحتفال بانتصارهم. منذ ذلك اليوم المشؤوم تتوالى المشاهد والصور والتقارير، وجلها من قبل إعلام المعارضة، إذ لا إعلام كردي في عفرين بعد الاحتلال، لتؤكد هذه السياسة الممارسة بشكل منهجي. لم تستطع المعارضة المسلحة المحتلة لعفرين ولا غطاءها السياسي ممثلاً بالإئتلاف وحكومته، إنكار هذه الظاهرة المشينة، إنما عمدت إلى التخفيف من حجمها ونطاقها. وقد ظهرت أصوات من نشطاء إعلاميين مرافقين للجماعات المحتلة، يتوهّمون أنهم مؤيدين لـ»ثورة» لا لتمرد طائفي مسلّح يُستخدم أداة لتدمير بلدهم وخدمة أجندات دول طامعة فيها، استفظعوا وقوع تلك الممارسات من قبل أناس يمثلون (الثورة السورية-المزعومة-وقِيَمها).

بعد الإجهاز على معظم ممتلكات الأهالي والمحال التجارية، وسلب مواسم الحبوب والفاكهة والرمان والسمّاق والعنب، أصبح موسم الزيتون وهو مصدر الدخل الأساسي لسكان المنطقة و المورد الأساسي، في مهب السرقة والاستيلاء، إن تحت ضغط السلاح أمام أنظار الأهالي، أو بنهب ما تبقى من الموسم، بوسائل «قانونية» سنّها الاحتلال وأعوانه، عن طريق إجبار الأهالي على دفع أتاوات باهظة للمسلّحين وبيع الزيت والزيتون لفريق تركي حصراً أو لبعض وسطائهم من التجار بأسعار منخفضة /10-15/ألف ليرة سورية، في ظل حصار مفروض على نقل الزيت ضمن المنطقة، إلا بموافقات محدودة وحصرية، وكذلك منع شحنه إلى الداخل السوري الذي بحاجة ماسة له ويصل السعر فيه إلى /27/ ألف ليرة سورية، بحيث ينتهي الموسم والرابح من الأهالي هو من لم يخسر كثيراً، بعد جهد وعمل ومصاريف وانتظار عامين ( حمل الزيتون يكون كل عامين).

لا نستطيع في هذا المقال سرد كل مظاهر السرقة والنهب، فهناك الكثير من المنشورات والتقارير الإعلامية والحقوقية حولها. بيد أننا نريد القول إن نهب ممتلكات سكان عفرين عملية مقصودة، ولها أهداف عديدة متكاملة في آن واحد، وليست فقط عملية لصوصية قد تشيع وسط الفوضى، بل هي سياسة ممنهجة ذات أهداف قصيرة وآنية وأخرى متوسطة وبعيدة المدى، يمكن تلخيصها كالتالي:

1-      تتعامل جميع الفصائل المسلّحة المحتلّة لمنطقة عفرين، وكذلك الاحتلال التركي بالطبع، مع منطقة عفرين ككل، سكاناً ومجتمعاً وثروة وخصوصية ثقافية وسكانية، كـ» منطقة معادية». فكل شيء مباح إذاً، ولا خطوط حمراء أو روادع أخلاقية. عفرين منطقة «معادية» لدى هؤلاء المتمرّدين، لأنها لم تحتضن أولئك المسلّحين، من شبكات القاعدة والإخوان المسلمين، ولم تصبح قاعدة لتنفيذ خطط الاستخبارات التركية في السيطرة على حلب وريفها، رغم الجهود الحثيثة منذ بداية العمل المسلح في ريف حلب لإدخال المنطقة في مدار التمرّد الإسلامي الطائفي المسلّح المدعوم من أنقرة والدوحة، تحت شعار (الثورة والجهاد). وهذه الفصائل نفسها لم ترتكب مثل هذه الانتهاكات وبهذا الحجم والاستمرارية في مناطق أخرى سيطرت عليها في الشمال السوري المحتلّ من قبل تركيا.

2-      الاحتلال التركي، صاحب الكلمة العليا والراعي الرسمي، شجّع ويشجّع هذه السياسة، لتحقيق عدة أهداف تتطابق مع أهداف تلك الجماعات المسلحة.

3-      النهب والسرقة وسيلة جيدة للتمويل الذاتي لتلك الفصائل، ووسيلة إثراء لقادتها، وكنوع من المكافأة الذاتية. ومعظمهم جلبوا عائلاتهم معهم وأسكنوها في منازل العفرينيين المُهجرين قسراً.

4-      إفقار وإذلال أهل عفرين، كسياسة كسر إرادة سكان المنطقة و «كسر عين» كما يقال في العامية، وفرض سلطة جديدة، وتذكيرهم يومياً بأن هناك سلطة جديدة عليهم، لا مجال لمعارضتها أو رفضها، أو التذمّر منها علناً.

5-      سلب المقومات الأساسية للعيش الكريم والاكتفاء الذاتي، الذي من الممكن تأمينه من موارد المنطقة وثروتها الطبيعية. وفي هذا الإطار تأتي عمليات حرق غابات والاضرار بالغطاء النباتي، وقطع أشجار زيتون وحراجية معمّرة وتجريف حقول ومزارع وتخريب بنى تحتية. كما أن ظاهرة خطف المدنيين والمطالبة بمبالغ باهظة لقاء الإفراج عنهم، تخدم سياسة إفقار السكان وحرمانهم من مواردهم ومدخراتهم.

6-      الانتقام من الواقع السابق في عفرين، قبل الإحتلال. حيث كانت موارد المنطقة تستثمر على نحو يعود بالفائدة إلى السكان إبان حكم الإدارة الذاتية القائمة آنذاك، التي وفّرت أماناً جيداً لسكان عفرين والنازحين إليها، وسط جحيم الحرب والعنف في مناطق ريف حلب ومدينة حلب نفسها، وكذلك إنتاج اقتصادي، وبناء عمرانيّ، وحماية متينة ضد غزوات الفصائل المتمرّدة المتواجدة المناطق المحيطة. لسان حال مقاتلي الجماعات السورية المتمردة، المنحدرين من مناطق أنهكتها الحرب، لسان حالهم في عفرين « لماذا دُمّرت مناطقنا، وهذه المنطقة المعادية تنعم بالخيرات». أما الاحتلال التركي فلن يغفر لسكان منطقة عفرين، احتضانهم لوحـدات حماية الشعب والمرأة YPG-YPJ، والتفافهم حولها، والمظاهرات الشعبية الشاجبة للسياسة التركية. وعدم السماح لمنطقتهم بأن تكون قاعدة لأعوان تركيا من المتمردين السوريين، ووجود إدارة كردية للمنطقة.

7-      إجبار سكان المنطقة على التماهي مع مؤسسات سلطة الاحتلال الجديدة، والانخراط في صفوف تشكيلاتها «مجالس، شرطة عسكرية، قوات أمنية…»، لتأمين لقمة العيش، أو درء خطر السلطة الجديدة، بعد سلبهم ممتلكاتهم وثرواتهم.

8-      الاحتلال التركي، يظهر نفسه، بعيداً عن عمليات النهب والسرقة، التي تبدو مقتصرة على الفصائل السورية المحتلة للمنطقة. وهنا يظهر جيش الاحتلال التركي كملجأ لبعض المواطنين المغلوب على أمرهم للاستنجاد به على أمل وقف السرقة، أو إعادة المسروقات. وقد حصل هذا الأمر مرّات كثيرة، دون جدوى.

9-      سعى الاحتلال التركي في الأسبوعين الأخيرين، لمحاولة تحسين صورة حكمه الاحتلالي في عفرين، بعد استمرار توارد الصور المُشينة في وسائل الإعلام، وتقارير منظمات حقوقية، وبعد أن حققت سياسة النهب جزءاً كبيراً من أهدافها، المشارة أعلاه.  فكانت «الحملة العسكرية الأمنية لملاحقة الفاسدين والمفسدين» المزعومة ضد أصغر فصيل عسكري من الفصائل المحتلة. عقاباً لهذا الفصيل الصغير جداً (« شهداء الشرقية» الذي يضم حوالي 200 مقاتل فقط في عفرين!)، لأنه يعمل ويسرق وينهب لحسابه الخاص، أو ربما رفض أوامر وطلبات تركية معينة، فكانت بمثابة حملة تأديب لهذا الفصيل ولينصاع لفصائل أكبر تابعة لتركيا، وليكون عبرةً للغير أيضاً.

10-    قبيل غزو عفرين أصدر «المجلس الإسلامي السوري»، وهو هيئة مُحافِظة ورجعيّة دينياً واجتماعياً وفكريّاً تضم عشرات الأئمة والمشايخ و» العلماء» السوريين من ضفة التمرّد الطائفي في سوريا، مقره في اسطنبول ويطمح لأن يكون» هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في سوريا» الحّرة الديمقراطية الجديدة!» ، أصدر عدة فتاوى اعتبر فيها قتال «قوات سورية الديمقراطية» جهاداً في سبيل الله ومحاربة العلمانية والإلحاد، وشرّع الاستيلاء على ممتلكات السكان في عفرين عند الحديث عن «الغنائم». وبعد الاحتلال وافتضاح ظاهرة السرقة والنهب أصدر المجلس نفسه فتوتين يحاول فيهما التملّص من تبعات المسؤولية الأخلاقية لتشريع سرقة ممتلكات المدنيين.

11-    الاستيلاء على موسم الزيتون قد تم بتنفيذ مباشر من قبل الاحتلال التركي وحكومة العدالة والتنمية. وقد اعترف وزير الزراعة والغابات التركي، بكر باكدميرلي، بذلك خلال جلسة برلمانية مخصصة لخطة الوزارة بالاستيلاء على زيت وزيتون عفرين حين طرح نواب المعارضة مسألة بيع زيت وزيتون عفرين في تركيا وتصديره لخارج تركيا، مبرراً ذلك بقوله « من الواضح والجلي أننا لا نريد لتنظيم العمال الكردستاني أن يستولى على موارد عفرين». ورد عليه نواب حزب الشعوب الديمقراطي HDP بأن هذا السلوك هو» سياسة الاحتلال والغنائم والنهب» ويجب وقفها.

الواضح أن هذه السياسة المستمرة منذ احتلال تركيا ومسلحيها السوريين لمنطقة عفرين، بل منذ اليوم الأول للعدوان واجتياح القرى الحدودية، حيث ظهرت أولى حالات السرقة، والمستمرة حتى اليوم، على مدار تسعة شهور، لا يمكن نعتها بأي حال من الأحوال كتصرفات فردية، أو سلوكيات شاذة، أو استغلال لحالة فوضى، مصطنعة أساساً وبالإمكان ضبطها بسهولة من قبل جيش الاحتلال التركي المتواجد بكثافة في المنطقة بقدراته الكبيرة، ويستطيع بسهولة ضبط المرتزقة السوريين الذين يقبضون رواتبهم من تركيا ويرفعون علمها وصورة رئيسها ويهتفون بحياته ويطمحون لنيل جنسيتها، ولا يمكن نسبها لأناس «فاسدين ومفسدين» وحسب. إن حجم ونطاق وعدد الفاعلين والمدى الزمني الطويل، والمستمر حتى اللحظة، لعمليات نهب ممتلكات المدنيين، إلى جانب ارتكاب انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية، كل ذلك يبيّن بوضوح إن ما يجري هو سياسة فعالة ومرسومة وطبقت بجدارة، إلى جانب غيرها من سياسات الاحتلال التركي وأعوانه من السوريين (تهجير السكان وإجراء تغيير ديمغرافي في المنطقة بإسكان آلاف العوائل من مناطق سورية أخرى في  منازل سكان عفرين المُهَجرين، تفكيك النسيج الاجتماعي العفريني المندمج والمتآلف، فرض ثقافة دينيّة/مذهبيّة متشددة غريبة على سكان المنطقة، ضم منطقة عفرين للنفوذ التركي المباشر على الأرض السورية….الخ)، والهادفة أساساً إلى الاعتداء على الخصوصية الثقافية-القومية للمنطقة ذات الغالبية الكردية بروح انتقامية، تليق بعصاباتٍ منفلتة وقطّاع طرق.

* جريدة الوحـدة – العدد 302 – تشرين ثاني 2018 – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى