من يكون حاكماً عادلاً بين الحياة والرغبات ؟
قد تكون الحياة التي تنعدم فيها الانفعالات ، حياة رتيبة ، مظلمة ، كئيبة ، فالسعادة والأحزان والآمال والرهبة والفزع ولحظة الهزيمة والانكسار ، ولحظة الانتصار ونشوة الفرح تضفي على الحياة النشاط والصبر والقوة والاحتمال ، ودونها لا يحس الإنسان بجمال وطعم الحياة ، ولا يرى ألوانها بنظرة كما هي ، ومنذ زمن بعيد ربطت الانفعالات والدوافع بالبحث والاكتشاف ، حيث يبقى الإنسان يبحث عن لذة الفرح والألم ، وإن كان في أفضل الحالات يبتعد عن الألم ، وهي تعتبر غاية الحياة ، بدلاً عن السكون والركود الذي يدمر الانفعالات والدوافع في مكانها ، رغم الإنسان يتمنى أن تلازمه صور مسرورة ويعمل بقوة أن تبقى هذه الحالات المفرحة لا تفارق فكره وإحساسه وروحه ، وبالمقابل يزيل كل ما يحزنه أو يكدر حياته ، وتجلب له الآلام والأحزان والضيق ويتجنبها إن واجهته ، الشاعر ” بدل رفو ” يمر بعمق بين الانفعالات والدوافع التي تؤثر عليه بطريق مباشرة أو غير مباشرة ، من خلال الإحساس والشعور ، أو رؤيته العميقة كظاهرة اجتماعية ، إنسانية ، فمن خلالها يحاول الوصول إلى خيوط تحقيق الخير للأسمى ، الذي ينشده الإنسان كحق طبيعي في الحياة ، فحالات الانفعال سواء ما يجلب السرور أو ما يسبب الاضطراب الانفعالي ، تمر إلى الأهداف السامية ، الشاعر بدل رفو في قصيدته ” حسناء جثة ” التي كتبها في المهجر ، نمسا ، ليصف رؤيته الانفعالية الأولى ، ” شعرها ، مخيلتها ، وجدانها ، عوالمها ، جوارحها ” يا ترى من الممكن إن نميز الحالات الانفعالية الأولية ومدى تأثيرها الإنساني ؟ فهناك وخزه هينة ، واثر عميق للألم والشعور بالسرور ، يبعث هادئاً وشعور غائر يذهل صاحبه ، وكلا الحالتين انفعال له تأثيره الفكري والحسي بما فيها الوعي لكل جوانب هذه الانفعالات الإنسانية التي ترنو لغاية معينة .
(( حسناء
شعرها يتناثر على أكتافها
حسناء
حمامات سلام تحلق في مخيلتها ووجدانها
تعتلي سلالم الحياة
وضباب يلف عوالمها
حسناء ، أحزان ومواجع
فربما ستكتسي الأمنيات جوارحها ))
هذه الصور الاستهلالية في بادئ الأمر ، نشعر إنها قصيدة غزلية بما فيها من عوالم وصف لحسناء ، يمكن للسرور والحزن الذي في أعماقنا إن يفضل موضوع الحسناء السرور على الآخر الحزن كإحساس ولهفة وانجذاب ذهني ، إذ نلتمس ونشعر الملمس الرقيق بين الصور الشعرية كملمس من حرير ناعم ، وليس كقطعة خشب خشنة ، هذه المشاعر الانفعالية تأتي من خبرات بسيطة ، هينة يمر فيها الإنسان ، لكن هل الحرير الناعم يحمل في طياته الصورية النقيض ، كالحزن والغضب والقلق على الأحداث المأساوية ؟ التي يمر خلالها ، هارباً من شيا ما ، في حين الحسناء ” تعتلي السلالم ” لتصل إلى أحلامها الجميلة ، التي تعتبرها حق من حقوقها الإنسانية أولاً والنسائية كامرأة حسناء ثانياً ، وفي خضم هذه الأحلام والانفعالات الداخلية ” تتكسر تحت أقدامها ” تلك السلالم التي كانت تظن من خلالها تصل إلى ما تريد ، ” دون أشرعة ” دون ” قارب نجاة ” نجد الشاعر بدل رفو على النقيض شيئاً فشيئاً يقترب من صور الأثر العميق ، الرعب والغضب على الإنسان بجهله وسلوكه وتصرفه الأناني ، التسلطي ، لغاياته الضيقة بعيداً عن الإنسانية .
(( تعتلي وتعتلي السلالم
لحين إن تتكسر تحت أقدامها
موائد الشعراء ومهرجانات السلطان
وتحلق على أجنحة الريح
من دون أشرعة
وقارب نجاة ))
الحسناء تحمل دوافع الحزن والانفعال الترجي للهروب من الواقع المؤلم العنيف الذي يكسر شفافية واحترام وشخصية وجمال المرأة التي دونها لا نرى الأرض في توازن مستمر ، هذه الانفعالات المنكسرة لا يعتبرها الشاعر مشاعر بسيطة هينة ، ولكننا نتفق معه ولا تندرج تحت الانفعالات النفسية الحادة ” فهي انفعالات ودوافع حادة عنيفة ” وهي تحول المشاعر إلى أقصى حدودها الفكرية والحسية والعاطفية ، المكدرة كالغضب والانفعال الغاضب الداخلي ، تحدث إذا كان ضغط المتغيرات المنكسرة تحت ظلال الهزيمة والضعف والاغتصاب والتسلط الفكري الجاهلي على المرأة بكل صوره الحياتية والاجتماعية خاصة وعلى الإنسانية عامة ، كل هذه الانفعالات تثير في النفس دوافع سلبية أو ايجابية ، وإن كانت أكثر سلبية على المرأة خاصة ترتدي ” ثياب ملائكية ” وتحمل ” سحر الطبيعة ” هذه الصور الشفافة اكتنفها البحر وهي تهرب من عالم القهر والدمار والخراب عالم الجهل والاغتصاب والفساد عالم الأنانية والسلطوية الرجولية ، وكان البحر يقول أنا أرحم منكم ، ارحم من الإنسان الذي اغتصب حياتها وحريتها ورقتها وسحرها وجمالها وحقوقها ، اخذ البحر كل ما لديها ورماها ” جثة ، ذو بطن منفوخة ، وعلى شواطئ رملية ” كأنه يلمح للإنسانية ، هذا مصير جهلكم وأنانيتكم ويقول لكل المتسلطين على رقاب البسطاء انتم في ” زمن الرذيلة ” وهي صور من الانفعالات والدوافع البحرية ضد الإنسانية المنكسرة .
(( حسناء
بثياب ملائكية وسحر الطبيعة
يرسلها البحر جثة
ذو بطن منفوخة
على شواطئ رملية دون حياء
كي يحيا الدكتاور
في زمن الرذيلة ))
الشاعر بدل رفو انتقل من الانفعالات والدوافع إلى إن يصل إلى الغاية التي من خلالها نعلم إن تسلط الجهل الإنساني ، السلطوي ، الاجتماعي ، والرجولي الأناني ، عبر كلمة ” دكتاتور ” التي تحمل الانفعالات والدوافع الذاتية الضيقة المؤثرة على حياة الناس والمجتمع وخاصة ” المرأة ” النموذج الشعري الذي اختاره الشاعر بدل رفو ” حسناء جثة ” وهي مؤشر انفعالي ودافعي نحو الحرية والحياة التي تصطدم بانفعالات ودوافع البحر ، لتكون النهاية مأساوية ، فمن يستجيب لهذه المتغيرات الانفعالية المؤثرة على حياة البشر ؟ من يضع لها حلولاً جذرية ، هي في الأصل موجودة على الأرض ؟ من يتحمل فورة الانفعال على الوجه الإنساني ؟ ومن يتحمل بياض الوجه عند الخوف ؟ من يريح انفعال واضطراب القلب أمام الجهل والفساد ؟ من يكون حاكماً عادلاً بين الحياة والرغبات بين الدوافع والانفعالات ؟ من يفهم الإنسان عند لحظات الغضب والألم وأثناء الاضطرابات والظلم ؟ كل هذه الأسئلة الانفعالية الصادقة ، تبث عبر الصور الشعرية ” حسناء جثة ” تثبت حقيقة واقعية يمر فيها الإنسانية عبر أمكنة وأزمنة مختلفة ، الشاعر بدل رفو سلط الضوء على هذه الانفعالات والدوافع ، وإن كانت نتيجتها مأساوية بحيث حتى البحر يرفض السلطوية والدكتاتورية التي تدمر الأرض والإنسان . فسلاماً لروح الحسناء التي هربت من الواقع المأساوي إلى مأساة أكثر مأساوية على شواطئ رملية مغتربة .