أدب و فنالقسم العام

قصة: إتركني وشأني…

بيار روباري

I

إتركني وشأني قلتها بصوتٍ حاد وعال، عندما حاول شاب التحرش بي ذات يوم في إحدى شوارع حينا. ولم أكن قد رأيته قبل ذلك في الحي ولم أعلم من يكون ولا أين يسكن وما إسمه، ولكن كان واضحآ ماذا يريد.

القصة بدأت عندما كنتُ عائدة مع زميلتي من المدرسة وبعد إفتراقنا بدقائق وذهابها إلى بيتها، أكملت أنا طريقي إلى بيتنا وحدي ومع دخولي الشارع الرئيسي إعترضني شاب اول مرة أشاهده، وبدا لي متوسط القامة وذو شعر كثيف أجعد، يمتلك نظرات حادة وممتلئ الجسم، ومن ملامح وجهه قدرة عمره بخمسة وعشرين عامآ.

إقترب مني وقال: يومكِ سعيد يا أنسة، ممكن أن أسألكِ سؤال؟

قلت: أهلين إتفضل.

قال: أين توجد هنا صيدلية؟

قلت له: ثاني شارع على يدك اليمن وفي نهايته عند الدوار، على الجهة اليسرى توجد صيدلية الشفاء.

رد قائلآ: شكرآ.

قلت: العفو وتابعت طريقي، إلا أنه خاطبني من جديد قائلآ:

ممكن سؤال آخر؟

قلت: ماذا بعد؟

قال وهو يتلعثم في الكلام: في الحقيقة يا أنسة كنتُ اود الحديث معكِ!

قلت له: بخصوص ماذا؟

أجاب: بودي أن نتعرف على بعضنا البعض!

قلت له بنوع من الحدة والصرامة: لا أريد التعرف على أحد، دعني وشأني وأخذت أسرع في الخطى. إنتابني الغضب من تصرفه هذا، ولحسن الحظ كان الشارع مزدحمآ بالناس مما منحني بعض الشعور بالأمان.

وبعد أن قطعت مسافة لابأس بها حاولت التأكد ما إذا كان يجري خلفي أم لا، وحاولت أن لا أذهب مباشرة إلى البيت كي لايعلم أين أسكن، ويقوم كل يوم بقطع طريقي ويخلق لي مشاكل أنا بغنى عنها.

حينا السكني حديث العهد نسبيآ، وواقع على أطراف مدينة حلب التي تعتبر ثاني أكبر مدينة في سوريا من حيث الأهمية وتعداد السكان، وتشكل مركز الثقل الإقتصادي الأهم في البلاد. ويسكنها مزيجٌ من القوميات والأعراق والطوائف الدينية. من هذه الأعراق السريان، الأكراد، الأرمن، التركمان والعرب اليوم يشكلون الغالبية العظمة من سكان المدينة.

على كل حال لم أجعل من ذلك الموقف قضية ولم أتحدث حول الأمر مع أحد لا مع الأهل ولامع إخوتي وخواتي ولاحتى مع صديقاتي. إعتبرت ذلك محاولة من شاب طائش، حاول إغرائي، وإنها مجرد معاكسة من المعاكسات التي يقومون بها الشبان كثيرآ، إنها مزعجة للفتاة وخاصة إذا أخذت شكلآ جارحآ، من خلال إستخدام الكلام البزيئ كما حدث مع بعض الزميلات.

ففي الأيام التالية لتلك الواقعة لم أرى ذاك الشخص، فظننت إن الموضع إنتهى عند ذاك الحد وقلت لنفسي الحمد لله، وإن كنتُ حذرة خلال تلك الفترة، وأتلفت يمينآ وشمالآ أثناء الماشي في الشارع، وأنا ذاهبة للمدرسة وعائدة منها. وبعد حوالي إسبوع من الزمان أوقفني ذاك الشخص مرة إخرى، محاولآ الحديث معي وهذه المرة عندى مدخل شارع بيتنا قائلآ:

نهارك سعيد يا نورة!

كدت أقع على الأرض وأحسست عينايا خرجت من رأسي من دهشتي، وهو ينادني باسمي وعلى مدخل الشارع الذي أسكن فيه! ومن الدهشة لم أعد أعرف ماذا أفعل سوى أني أصرخ بصوت عال حِل عني. في تلك اللحظة إنتابني الغضب والخوف معآ، إلا أنني تمالكت نفسي بصعوبة وحاولت الإستمرار في المشي باتجاه البيت ولم أرد عليه نهائيآ. لا أدري كيف وصلت إلى البيت ومع دخولي نادت الوالدة من داخل غرفتها وسألت: مين يا أولاد؟

أجبتها: أنا نورة يا أمي.

ردت الوالدة قائلة: أهلين حبيبتي نورة كيفك أمي؟

أجبتها وأنا أتجه إلى غرفتي التي يقاسمني إياها شقيقتي سعاد قائلة:

الحمد لله أنا بخير أمي، ثوان بس أضع الشنتاية في الغرفة وأغير ثيابي.

أجابت الوالدة: طيب حبيبتي خذي راحتك.

سألتها قائلة: مَن مِن إخواتي عاد من المدرسة؟

أجابتني الوالدة: لم يعد بعد أحد، أنتِ اول الواصلين.

قلت لها وأنا أغير ثيابي: على خير ماما، إن شاء بعد قليل سيصل الجميع.

وسألتها أيضآ: وأبي؟

قالت الوالدة: بابا لم يصل بعد من العمل، ولكن لم يبقى له الكثير ليصل.

قلت: طيب ماما تقريبآ إنتهيت من تغير ثيابي.

في سورية جميع طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية يرتدون لباس موحد وهو لبس شبه عسكري، حينها كنت في الصف الحادي عشر. وإختي كانت تدرس في معهد دار المعلمين بحلب.

رغم حديثي مع الوالدة، إلا أن جل تفكيري كان عند ما حدث معي منذ دقائق. بقية أفكر في ما تعرضت له وما يجب عليّ القيام به ومع من يجب التحدث أولآ. وماذا لو عاود وعاكسني هذا الشخص مرة إخرى؟ ورحت أفكر من أين أتى باسمي وعِلم بمكان سكني. قلت السكن لربما راقبني وإكتشف أين أسكن، ولكن كيف عرف بإسمي هذا الشخص الغريب؟ أثناء الحديث مع الوالدة حاولت أن أضغط على نفسي، كى لا تلاحظ أي شيئ عليّ من خلال نبرات صوتي.

خرجت من غرفتي وذهبت لرؤية الوالدة، التي بدورها إنتقلت من غرفتها إلى المطبخ في هذه الأثناء. دخلت المطبخ وإتجهت نحو الوالدة وقلت لها: مرحبا أمي.

ردت الوالدة قائلة: أهلين حبيبتي.

شو كيف كان الدوام اليوم؟

قلت: عادي أمي كأي يوم، دروس ووظائف وحل تمارين.

أجابت الوالدة: على خير بنتي، بس لازم تشدي حالك السنة القادمة عندك بكالوريا.

أجبتها: صحيح أمي، أبذل كل جهدي والتوفيق من عند الله.

الوالدة: الله يعطيكِ العافية ويوفقك.

قلت: آمين أمي.

في هذا الأثناء سمعت صوت الباب وهو يغلق، وما هي إلا ثوان وإذ بالوالد ينادي ويقول: يا إم عزيز وينك؟

ردت الوالدة: في المطبخ إبن عمي.

سأل الوالد: رجعوا الأولاد؟

الوالدة: نورة بس رجعت من المدرسة، والبقية بعد ما صلوا.

تدخلت في الحديث قائلة: أهلين يا أبي وخرجت لمقابلته وأخذ الشنتاية من يديه.

رد عليّ قائلآ: أهلين نورة عزيزتي. شو وينون إخوتك؟

قلت: أكيد هم على الطريق وما هي إلا دقائق حتى يصلوا، هات عنك يا أبي.

أجاب: طيب على خير بنتي. خذي هذه الأغراض وأعطيهم للوالدة الله يخليك.

قلت: أمركك أبي.

أجاب: أنا رايح أغير ثيابي وبعدين راجع إلى عندكم.

قلت: خذ راحتك أبي.

والدي كان يعمل في بلدية حلب بقسم الطابو والوالدة كانت ربة بيت، وكنا ثلاثة إخوة بنتان وصبي. كانت لي إخت أصغر مني، ولكنها توفيت وهي في عامها الأول وحزنا عليها كثيرآ.

بعد دقائق قليلة وصل كل من سعاد وأخي عزيز الذي يكبرني بسنة ونصف، وكان يدرس بكالوريا صناعية في حي سليمان الحلبي إختصاص الكهرباء. أما مدرسة سعاد كانت موجودة في حي بستان الباشا، وهي البكر من بيننا.

كنا حينها في شهر أيار والطقس حينها كان من أجمل ما يكون، فرشنا السفرة بأرض الدار ووضعنا الطعام عليها، وماء الشرب وجلسنا حول السفرة، وتناولنا العشاء سويآ.

بعد العشاء عدت إلى غرفتي وأنا مهمومة بالتفكير بما حدث معي، وكيفية إيجاد حل لها وماذا سيكون ردة فعل الأهل إن أخبرتهم؟

بالليل سألتني سعاد قائلة: ما بكِ يا نورة؟

قلت: لاشيئ، على ما يبدو إني متعبة بعض الشيئ.

قالت سعاد: متعبة! من ماذا؟

أجبت: لا أدري.

قالت: هل أنت متأكد إنك متعبة، أم في الأمر شيئ آخر؟

قلت لها: بلى أنا متأكدة. ثم ماذا يمكن أن يكون هناك؟

أجابت: الحب مثلآ أو مشاكل بالمدرسة. قبلك مررت بنفس الظروف وأعلم عما أتحدث.

قلت لها: يا إختي سعاد، والله لاشيئ من كل الذي ذكرته. فقط هناك أمر معين ولا أدري كيف لي الحديث عنه ومع مَن. لأنني خائفة من ردة فعل الأهل إن أخبرتهم.

عندما قلت لها ما قلت، إحمر وجهها وتجهمت وبانت علامات الخوف والغضب عليها. سألتها ما بكِ تغير لون وجهك؟

أجابت: يا نورة لا يكون أحد ضحك عليك يا بنت!

سألتها مستفسرة: ماذا تعنين بذلك؟

قالت: يا هبلة يعني أحد الشباب، قال لكِ إنه يحبك ووعدك بالزواج ونال مراده.

قلت: ماذا جرى لكِ وأين ذهب الخيال بك! لاشيئ من هذا ولن يستطيع أحد أن يضحك عليّ.

ردت وقالت: الحمدلله ما في شيئ من هذا، بتعرفي رعبتيني وسيبتي ركبي.

قلت لها: أنت التي شطح بكِ الخيال، وتصورت أشياء لم تحدث وغير موجودة بالأساس.

سألتني وقالت: ماذا هناك إذآ؟

قلت لها: منذ عدة أيام أوقفني شخص في الشارع ….. وظننت إن الحكاية إنتهت عند هذا الحد. ولكن على ما يبدو إن الواقع غير هذا، بدليل نفس الشخص كان ينتظرني اليوم، والأنى من ذلك، كان ينتظرني على مدخل شارعنا أثنا عودتي من المدرسة، ونادني باسمي الشخصي!

وهذا ما أدهشني وأذهلني، ومازلت محتارة من أين أتى باسمي. مع العلم أني لم أرى هذا الثقيل من قبل، ووصفت لإختي كيف يبدو من حيث الشكل.

قالت سعاد: من رأي أن نخبر الوالد والوالدة وأخي عزيز، هذ أفضل شيئ. وأنتِ عليك أن تحتاطي من هذا الغلظ، وإذا لزم الأمر علينا إخبار إدارة المدرسة بذلك والشرطة، إن دعت الضرورة. أهم شيئ علينا معرفة هوية هذا الشخص، ومن ثم وضع حد له.

قلت لسُعاد: أنت على حق. وهل تظنين سيعاود المحاولة من جديد هذا الوقح؟

أجابتني سعاد: أعتقد نعم، وخاصة بعد علم باسمك وأين تسكنين.

المشكلة إن الوالد يعمل، وأخي عزيز لديه دوام، فهما لايستطيعان مرافقتك كل يوم من البيت للمدرسة وبالعكس. في الصباح ممكن واحد منا يرافقك أو إحدى زميلاتك، ولكن ولكن يبقى الإشكال أثناء العودة.

قلت: هذا صحيح، والأن؟

قالت: إنهضي معي ولنذهب للحديث مع الأهل في الحال لآننا لا ندري، ما حقيقة هذا الشخص، قد يكون معتوه أومجرمآ أو ……. .

قلت: إتفضلي أنا جاهزة.

قبل خروجنا من الغرفة قالت سعاد: دعيني أنا أفاتح الوالد، موافقة؟

أجبتها: كما تريدين إختي.

وضعت سعاد يدها على كتفي وقالت: إههدئي إختي ولاتخافي. أنتِ لم تفعلي شيئ تخجلين منه.

قلت: سأحاول أن أكون هادئة، ولكن التوتر أخذ يسيطر علي رغمآ عني.

أجابتني سعاد: هذا أمر طبيعي وحضنتني ثم قالت:

– دعنا ننادي على أخي عزيز، لكي يكون حاضرآ معنا ويعلم بالأمر.

قلت: حاضر. وفعلآ طرقنا باب غرفة أخي عزيز.

فرد عزيزمن الداخل: ادخل.

فتحت إختي سعاد الباب ووقفت فيه وقالت: أخي تعالى معنا إلى عند الوالد، نريد إياك والوالد معآ في موضوع خاص.

أجاب عزيز: الأن؟

قالت سعاد: نعم الأن. لأن الأمر مستعجل ولا يحتمل الإنتظار.

رد عزيز قائلآ: خوفتيني يا سعاد ما الأمر؟

أجابته سعاد: في الحال ستسمع بالموضوع بوجود الأهل.

قال: حاضر إسبيقيني أنا جاي. لم يكن يعلم عزيز، أني أقف بجانب الباب وأستمع إلى حوارهما.

إتجهنا إلى غرفة الأهل وطرقنا على الباب غرفة الأهل ونادت سعاد: أبي ممكن أن أدخل؟

أجاب الوالد من الداخل: إتفضلي إدخلي يا سعاد.

دخلنا الغرفة ومسينا على الأهل فرحبوا بنا وقال الوالد:

– إجلسوا يا بنات.

جلسنا والتوتر بدى علينا الإثنان.

عاد وقال الوالد: خير يا سعاد على ما يبدوا هناك كلام على لسانكِ.

أجابته سعاد: نعم أبي، هناك موضوع ضروري نود الحديث معكم عنه، ولكن يا ريت تنتظر حتى يأتي أخي عزيز.

أجاب الوالد: على ما يبدو الموضوع جاد.

ردت سعاد: نعم أبي وهو كذلك.

عدل والدي من جلسته وقال:ك وهل أخبرتموه؟

ردت سعاد: بلى أبي، أخبرناه.

سألت الوالدة: ما بك يا نورة؟

قلت لها: لا شيئ يا أمي.

نظرت الوالدة إليّ وقالت: كيف لا شيئ والتوتر باديٌ عليكِ؟

تدخلت سعاد وقالت: أمي، إختي متعبة بعض الشيئ.

قالت أمي: ليه خير إن شاء الله؟

أجابتها سعاد: سوف تسمعين بمجرد أن يحضر أخي عزيز.

قالت الوالدة: طيب.

 نهاية الجزء الأول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى