تقديم :
أندريه موروا ( 1885-1967) كاتب فرنسي ، متعدد المواهب والاهتمامات ، غزير الإنتاج ، فقد أخرج خلال حياته الإبداعية ما يقرب من (200) كتاب ، بين رواية، ومجموعة قصصية ، وسيرة ذاتية ، وبحث تأريخي . وقد ذاعت شهرته عندما نشر روايته الأولى ” صمت الكولونيل برامل ” (1917) والتي ترجمت في السنة ذاتها الى اللغة الإنجليزية في انجلترا وأميركا . وطرحت روايته الثانية ” أجواء ” ( 1928) وجهتي نظر المرأة والرجل في العلاقة الزوجية. ومن رواياته الأخرى «الحلقة العائلية ” ( 1932) ، وغريزة السعادة ” (1934) ، و”حالة لقراءة الأفكار ” ( 1937) وغيرها كثير . ورغم القيمة الفنية العالية لهذه الروايات ، واسلوب موروا الجذاب ، الا أن مكانته الأدبية ترسخت كثيرا عندما كتب سلسلة روايات عن السير الذاتية لمشاهير المؤلفين الفرنسيين والإنجليز ، شملت تراجم شيلي ، وڤولتير، وشاتوبريان ، وبايرون ، وجورج صاند ، وڤكتور هوگو ، وبلزاك ، وبروست ، وغيرهم. كما أن له مؤلفات تاريخية، لاقت رواجاً كبيرًا . انتخب موروا عام 1937 عضوا في الأكاديمية الفرنسية ..
كان موروا يتمتع بحسّ مرهف؛ ومن ثمّ لجأ إلى أسلوب فكاهي يخفف من وطأة الحقيقة المرة التي أراد قولها . وهذه القصة التي نقدمها اليوم ،تهكم ذكي وسخرية لاذعة من أدعياء الفن ، الباحثين عن الشهرة عن طرق تقليعات وصرعات ( الحداثة ) المزيفة التي يلجأ اليها من يفتقر الى الموهبة الحقيقية ويطبل لها مرتزقة النقد التشكيلي وتجاره والأعلام المضلل ، وأصحاب قاعات العرض . موروا يدين هنا ، ظاهرة تحويل الفن الى سلعة في السوق. والغريب في الأمر ان الفنان بيير دوش الذي وافق متردداً على القيام بدور هزلي من اجل الشهرة ، يندمج تدريجيا في هذا الدور – الذي رسمه له صديقه الكاتب للسخرية من (الحداثة ) الشكلية الفارغة – ، ويخيل اليه ،أن لوحاته ذات قيمة فنية حقاً وأنه فنان عبقري . لا اريد أن أضيّع على القارئ الكريم متعة قراءة القصة هذه القصة الجميلة الساخرة ، التي حاولت عند ترجمتها الحفاظ على روح النص الأصلي وايقاعه .
القصة :
حين دخل الكاتب بول أميل غليز الى المرسم ، كان الفنان پيير دوش قد أنتهى لتوه من أنجاز لوحته الفنية الجديدة التي كانت تمثل منظرا طبيعيا في مقدمته باقة ورد في أنية زهور، وباذنجان في صحن . وقف الكاتب للحظات يرقب صديقه ،الذي كان منهمكا في العمل، ثم قال في نبرة قاطعة :
كلا ! ليس هذا هو المطلوب ! –
توقف الفنان عن النظر الى الباذنجان وتطلع الى ضيفه مندهشاً. فقال الكاتب مرة أخرى:
– – كلا ثم كلا. لن تحرز أي نجاح عن هذا الطريق . لديك المهارة الفنية ، الموهبة ، الصدق ، ولكن كل ما تفعله ياعزيزي عادي .أن لوحتك لا تصرخ ، لا تذهل ، وهي لن تستوقف المشاهد الوسنان بين خمسة الاف لوحة معروضة في القاعة. كلا يا بيير دوش . لن تكون مشهورا أبدا ! وهذا أمر مؤسف .
– ولكن لماذا ؟ – تساءل بيير الطيب البسيط وهو يتنهد- أنا أرسم ما أراه ، وأحاول التعبير عما أشعر به.
– وهل المشكلة تكمن هنا يا صديقي الساذج ؟: عندك زوجة وثلاثة أطفال . كل واحد منهم بحاجة الى ثلاثة الالف سعرة حرارية في اليوم , وعدد اللوحات المعروضة أكثر من عدد الراغبين في الشراء ، والجهلاء أكثر من المتذوقين .. ولما كانت المسألة على هذا النحو فأنه يتعين عليك يا بيير دوش أن تبحث عن الشيء الذي سيميزك عن عديمي الموهبة والفاشلين وعما يمكن أن ينقذك . .
أجاب بيير دوش : بالعمل ، والصدق الفني في لوحاتي . –
– لا تكن طفلا يا بيير , أن الوسيلة الوحيدة لهز مشاعر الحمقى هي أن تقوم بشيء هائل … قل أنك ستسافر الى القطب الشمالي , أخرج الى الشارع بالبرنس والطربوش ، أعلن نفسك رائدا لمدرسة فنية جديدة ، اصرخ دفعة واحدة بحفنة من الكلمات والمصطلحات المختلفة : أكستير يوريزم ، الدينامية ، اللاوعي ،التجريد. أكتب عدة بيانات،أعلن أنك ترفض هذا الشيء أو ذاك : الحركة أو السكون ،اللون الابيض أو الاسود ، المربع أو الدائرة . أخترع الرسم الجديد الجبار الذي لا يعترف سوى باللونين الاحمر والاصفر ، أو الرسم الاسطواني ، أو ألرسم المجسم المتعدد الاسطح , أو الرسم ذا الابعاد الاربعة.
وفي هذه اللحظة هب غبير زكي ناعم ينبيء بقدوم السيدة كوسنيفسكايا –الحسناء البولونية المغرية ، التي كان بيير دوش مفتوناً بعينيها البنفسجيتين . كانت السيدة كوسنيفسكايا , مشتركة في أغلى المجلات الفنية التي تعنى بنشر الصور الباذخة لروائع فنية مستنسخة من قبل رساميين ناشئين لا تزيد أعمارهم المهنية عن ثلاث سنوات , ولم يرد أسم دوش النبيل في تلك المجلات ولا مرة واحدة ، لذا كانت السيدة كوسنيفسيكايا تستخف بأعمال دوش . أرتمت الضيفة على الاريكة وألقت نظرة خاطفة على اللوحة التي كان دوش قد شرع بالعمل فيها , وهزت خصلات شعرها الذهبي بضجر.
– كنت أمس في معرض ( الفن الزنجي في العصر الذهبي ) – قالت ذلك بصوتها الرخيم وهي تمطط كلمة الزنجي – يا لها من قوة تعبيرية هائلة … يا له من فن رفيع
أشار دوش الى عمله الجديد ( البورتريه ) الذي كان راضيا عنها , فقالت على مضض : –
– لطيف جداً
ثم نهضت في ضيق وغادرت القاعة مندفعة ، رشيقة ، صاخبة ، تتضوع بأريج شذى فواح .
قذف الفنان لوحة الالوان الى الزاوية وتهالك على الاريكة في يأس:
– كلا ! من الأفضل للمرء أن يعمل وكيلاً لشركة تأمين ، أو موظفاً في أحد البنوك ، أو مفتشاً في البوليس … أما الرسم ، فهذا آخر شيء يمكن أن يفكر فيه الأنسان . الحرفيون هم وحدهم الذين يفرحهم أعجاب الجهلاء بنتاجاتهم , والنقاد لا يحترمون الموهوبين ، بل الجهلاء.. ينبغي وضع حد لكل هذا !.
كان الكاتب بول – أميل يصغي طوال الوقت الى صديقه، ثم أطرق مفكرا وهو يدخن سيجارته , وأخيرا سأل صديقه الفنان : :
– قل لي من فضلك: هل تستطيع أن تصرح بلهجة جادة للسيدة كوسنيقسكايا ولبعض الاشخاص الاخرين، أنك مشغول منذ عشر سنوات بالبحث عن أسلوب إبداعي جديد ؟
.. ؟ أنا –
– أجل أنت .. أصغ ! . سأخبر بذلك بعضا من “المختارين” . كل ما تحتاج اليه هو عدة مقالات في مجلات معينة تعلن عن انشغالك بإنشاء المدرسة الايدو – تحليلية في الفن، لأن كافة رسامي ( البورتريه) السابقين كانوا يركزون عن جهل على دراسة الوجه الانساني .وهذا محض هراء ! لأن تصوير الانسان على نحو صادق يكون عن طريق رسم ما نتصوره عنه .. فعلى سبيل المثال يكون بورتريه كولونيل ما : عبارة عن خلفية زرقاء – ذهبية تقطعها خمسة أشرطة كبيرة ، وثمة جواد في أحدى زوايا اللوحة وفي الاخرى عدة صلبان. أما بورتريه رجل الصناعة , فأنه ينبغي أن يتكون من مدخنة وقبضة مشدودة تستند الى الطاولة. أتدري يابيير دوش ،ما الذي يمكنك أن تقدمه للعالم ؟ بوسعك أن تنجز عشرين لوحة أيديو – تحليلية في شهر واحد ؟
قال الفنان ذلك وهو يبتسم في حزن ! .
– بل وحتى في ساعة واحدة !
قال الفنان ذلك وهو يبتسم في حزن ، ثم أردف قائلاً :
– ولكن ما يحزنني حقا ياغليز , هو أن كل شيء كان سيتغير لو كنت أنساناً أخر
– هل نجرب ؟
!لست أستاذا في الثرثرة –
– اذن ما عليك – حين يطلب منك تقديم بعض الإيضاحات – الا أن تصمت برهة ، ثم اشعل غليونك ، واسحب منه نفساً وانفخه في وجه محدثك، وقل له بكل بساطة العبارة التالية : ” هل شاهدت يوما كيف يجري النهر ؟
– – وماذا يعني ذلك ؟
لا شيء… لا شيء البته . ولهذا فأن الكل سيظن ان ثمة شيئاً ما ، وعندما سيكتشفونك ، ويفسرون أعمالك ويرفعونك الى العلا ، ستقص عليهم هذه الحكاية وتسخر منهم .
بعد مضي شهرين تم افتتاح معرض نتاجات بيير دوش , وأصاب نجاحا هائلا .. وكانت السيدة كوسنيفسكايا الرائعة ، المتدفقة الحيوية ، الصاخبة العبقة ، لا تتخلف خطوة واحدة عن صديقها العبقري الجديد بيير.وكانت طوال الوقت تردد :
– أه .. ياله من تعبير ، يالها من قوة ، يالها من دقة . كيف أستطعت ياعزيزي أن تتوصل الى هذا التركيب ؟
صمت الفنان برهة وأشعل غليونه ونفث موجة كبيرة من الدخان وقال :
– هل شاهدت يوما كيف يجري النهر ؟
أرتعشت شفاه السيدة كوسنيفسكايا الرائعة ، وكان فيها وعد بالأفراح المغردة الجامحة. وفي ركن من صالة العرض وقف شاب أنيق ، يرتدي معطفا ذا ياقة من الفرو – هو السيد سترونسكي , يخطب في الجمهور :
– لابد أن ثمة شيئا ما هنا ، شيئا قويا جدا. ! قل لي يابيير دوش , كيف توصلت الى ذلك ..؟ وما الذي كان بمثابة حافز بالنسبة لك ؟ مقالاتي ؟
تريث بيير دوش في الاجابة ، ثم نفخ الدخان في وجه محدثه مزهوا وقال :
– هل شاهدت ياعزيزي يوما ، كيف يجري النهر ؟
صاح سترونسكي –
– رائع … رائع وبسيط .
وفي هذه الاثناء كان تاجر لوحات يتجول في أنحاء المعرض , ثم اقترب من الفنان وأمسك بذراعه وأنتحى به جانبا وقال له :
صديقي العزيز أنت أنسان ماكر , وهذا الشيء يمكن أستغلاله.سأشتري منك جميع اللوحات المعروضة وخمسين لوحة كل عام , فما رأيك ؟
صمت دوش وأخذ يدخن وقد أرتسم على وجهه تعبير مبهم. وبدأ الجمهور يغادر القاعة تدريجيا ، وعندما أغلق بول أميل غليز الباب وراء أخر زائر ، كانت صيحات الاعجاب ما تزال تأتي من السلم ، متباعدة ولم يبق في القاعة سوى الكاتب والرسام. قال الكاتب في فرح غامر :
ما رأيك الان أيها العجوز ؟ لكم كنا ماهرين في تدبير هذا الامر. أسمعت ما قاله ذلك الشاب الانيق وما قالته كوسنيفسكايا والفتيات الثلاث ( المصبوغات اللواتي كن يردددن دونما انقطاع . ياللجدة , ياللجدة , ياللجدة ! أه بيير دوش .. لقد كنت دائما أظن أن الغباء الانساني لا حدود له … ولكن هذا المعرض تجاوز كل توقعاتي .
وأطلق الكاتب ضحكة مجلجلة. قطب دوش وجهه ، ولما كان غليز لا يتوقف عن الضحك فقد صرخ به:
– أبله !
تساءل الكاتب في غضب : –
– أنا أبله ! بعد كل ما صنعته من أجلك ؟
تطلع الفنان باعتداد الى لوحاته الايديو – تحليلية , وقال بلهجة شخص واثق من نفسه :
– أجل ياغليز. أنت أبله حقيقي … فثمة شيء ما في نتاجاتي –
وحملق الكاتب في وجه الرسام مذهولا وقال له : –
كلا ، هذا أكثر مما يمكنني أحتماله ، وصاح به : –
تذكر يا بيير من الذي أوحى لك بالفكرة الجديدة ؟
سكت بيير برهة , ثم نفث الدخان وقال :
هل شاهدت يوما كيف يجري النهر .؟